شعرُ الوصف
قصة القصيدة: اقترح الشاعر الدكتور حسن علي نعمة على صاحبه الشاعر، ترك أشعار الوصف أو تقليلها في أشعاره، فلم يوافق الشاعر على ذلك الاقتراح وقرر إجابته فكانت هذه القصيدة.
يا ناعمَ الإسمِ لا تقسُ على الحَجرِ فما الصــلابةُ في إسمـي من الكِبَرِ
الاسمُ صُلبٌ وقلبي لا مثيـلَ لهُ أرقُّ من نســماتِ الصبـحِ في قَطَرِ
قد صارعَ الهمَّ طـولَ الليلِ في سَهَرِ كأنّمـا دهـــرُهُ ليلٌ بـــلا سَحَرِ
ما لي وللشعرِ لولا مـا يؤرِّقُني منَ المشـــاعرِ والأشـجانِ والفِـكَرِ
فالحُسنُ والنِّعمةُ الـرغداءُ إسمُكمُ فهل يَلـــيقُ رقيقُ الاسمِ بالذكرِ؟
ما لي أحـثُّك بالأشـعارِ تبصِرةً ألستَ أَبصَـرَ بالأشـعـارِ من حَجرِ؟
ما كنتُ أحسَبُ أنّي شـاعرٌ غَزِلٌ حتى رسـمتُ بوصفي أجملَ الصــورِ
فالشعر يسحَرُني حتى يطيّـرَني لولا افتناني بوصفِ الشـعرِ لم أطـرِ
سألتني تركَ شعرِ الوصفِ ويحَكمُ فكيفَ أتركُ مـا يُغني عن البـصـرِ؟
لا تجحَدِ الوصفَ في الأشعارِ تسمعُها فالشعرُ غُصـنٌ ووصفُ الشعرِ كالزهَرِ
فالوصفُ في الشعرِ كالعينينِ للبصرِ فاسمع بوصفيَ ما يُغنيكَ عن نَـظـرِ
يا صاحِ دَعْ عنك شعراً لا خيالَ به واعكُفْ على الوصفِ إنّ الوصفَ كالصورِ
فالوصفُ يَخلُقُ في أذهاننا صُوَراً والعينُ تجلبُ ما قد بانَ من صُـورِ
فالعينُ من غيرِ عقلٍ لا ترى صُوراً ولا تفرِّقُ بين البِيــضِ والسُّــمُرِ
لم يُجدِ وصفٌ لمن قلّت عقولُهمُ لكنّـهم قـد رأوا مـا لاحَ للنّــظرِ
فانظر بعقلِكَ قبلَ العـينِ مُــحترِساً ترَ البصيرةُ مــا لم يَــبدُ بالـبَصرِ
شِعرُ النــسيبِ بلا وصـفٍ لفـاتنةٍ يجلو المحاسنَ مـن وجهٍ ومـن ثَغَرِ..
مثلُ الطعامِ بلا مـلـحٍ لآكــلِهِ أو نخلةِ الدارِ في قيــظٍ بلا ثمرِ
فالوصف عيـنٌ بلا جَفنٍ ولا مُقَلٍ يرى بها العـقلُ ما ينـأى عن النـظرِ
فاتركْ لسمـــعِـكَ أوزاناً وقافيةً أمعِنْ بعقلكَ في وصــفٍ وفي فكَرِ
سألتني تركَ وصـفٍ قد أطلتُ به قصـائدي فــغـدتْ بـرَّاقةَ الصــورِ
تَودُّ في الشعرِ إحساساً وخاطرةً وأن أغادرَ وصــفَ البحرِ والشجرِ
لكنني يا أخـي بالوصــفِ منفَعِلٌ أبثُّ فيه انطـباعاً غــيرَ مُنـحَصِرِ
وقد ملكتُ زِمامَ الشـعرِ أُرسِــلُهُ كما أشاءُ مـعَ الألـحـانِ والـوَترِ
أبثُّ في الوصـفِ أفكاراً وخـاطرةً كوصفيَ الغـادةَ الحــســناءَ بالقَمرِ
ووصفِ مَبسمِها يجـلو لـنا برَداً أو لؤلؤاً لامــعاً من أفضـلِ الدُّرَرِ
ووصفيَ البـحرَ بالأمـواجِ ملتطماً ينبيكَ عـن قلــقي أو خَشـيةِ القَدرِ
وإنْ وصفتُ لكـم سُـحْباً مُلبَّدةً شَعرتَ قربَ هطــولِ السُّحبِ بالمطرِ
من غيرِ وصفٍ لبستانٍ وبهجتهِ ما فرقَّ الســــمْعُ بين الوَردِ والسَّمُرِ
فسامعُ الشعرِ أعمى لا يرى زَهَراً والوصفُ يَجعلُ سمعَ الناسِ كالبَصرِ
تُوحـي إليَّ تشــابيهٌ وأمثلةٌ ما راقَ نفسيَ من رسمٍ ومن صُـورِ
فالوصـفُ أوقـعَ بشّاراً بفاتـنةٍ فأذنُهُ عَشــقتْ خَــوداً بــلا نَــظرِ1
ووصفُهُ لـ(مثــارِ النَّقعِ) معجزةٌ أعيت ضريراً كما أعيـت ذوي البَصرِ2
لا أحسبُ الشعرَ روحاً إنما جَسدٌ تُصغي إلـــيه كما تُصـغي إلى بَشرِ
فإن نظرتم إلى الحسناءِ يأسِرُكم منها القوامُ وحــسنُ الوجهِ والشّعَرِ
والروحُ في جسدِ الأشـعار نَلمَسُها في البحرِ واللـفظِ والأنغــامِ والصورِ
أما أجـاد يـزيدٌ في شهيرتِه (نالت على يدِها ما لم) يَنلْهُ ثَري؟ ..3
(كأنَّه طُـرْقُ نَمْـلٍ في أنامِلها) فشـبَّـهَ الرسـمَ والحِـنّاءَ بالأثَـرِ
فـذاك وَصفٌ لما قد لاحَ في يـدها من زخـرفِ الرسـمِ والألوانِ للنـظرِ
(وأمطرَتْ لُؤلؤاً من نرجِسٍ وسقتْ وَرداً وعضَّتْ عـــلى العنّابِ) بالثَّغَرِ4
إن يحسدوه على ما قال (وا أسفي) حتى على الشعرِ لم ينجُ مـن البشرِ5
فانشُدْ لنفسكَ حسناءً كما وُصِفت (إنسيةً) ما رأتها الشمسُ في قـــطَرِ6
وهل أزيدكَ بيتاً ما سعـيتُ له بل جاءني ســاحباً بيـتين في السحَرِ؟:
فإن وصفتُ شُعــاعاً زان لِمَّتَكم فالوصفُ زادَ على ما لاحَ في الشــعَرِ
فقد ذكرتُ وَقاراً يا أخي حَسَناً وخِبرةَ الدهرِ من عـلمٍ ومـن عِبَرِ
ولا أبرِّئُ نفــسي من مـحاسنِه وقد نثرتُ عليـــكم هــاهنا غُرَري
الشرح:
1. بشار: بشار بنبرد
2. مثار النقع: المقصود البيت الشهير لبشار بن برد:
كَأَنّ َمُثارَ النَّقعِ فَوقَ رُؤُوسِنا وَأَسيافَنا لَيلٌ تَهاوى كَواكِبُهْ
3. يزيد: الخليفة يزيد بن معاوية الذي تنسب إليه القصيدة المشهورة في الأدب العربي ومطلعها:
نَالَتْ عَلى يَدِها مَا لَمْ تَنَلْهُ يَدِي نَقْشاً عَلى مِعْصَمٍ أَوْهَتْ بِه ِجَلَدِي
4. الثغْر: مقدم الأسنان أوالفم، حرك للضرورة.
5. (وا أسفي): إشارة إلى البيت في تلك القصيدة:
إن يَحْسُدُوني عَلَى مَوْتِي فَوا أَسَفِي حَتَّى عَلَى المَوْتِ لا أَخْلوُ مِنَ الحَسَدِ
6. إنسية: إشارة إلى البيت:
إِنْسِيَّةٌ لَوْ رأتها الشَّمْسُ ماطَلَعَتْ مِنْ بَعْدِ رُؤْيَتِها يَوْماً عَلى أَحَدِ