مقدمة اللامية
بسم الله الرحمن الرحيم
في صيف 1992 كنت وعائلتي في باريس نهرب من لهيب صيف الخليج المتأجج، وكنا في فندق يسمى آنذاك فندق جورج الخامس. وفي ليلة من تلك الليالي الباريسية وأثناء العشاء في جناحنا في الفندق، كنت أحدث أطفالي عن الصيف في الخليج عندما كنت طفلاً. فأمعنت في الحديث بإسهاب، راوياً لهم قصصاً عن طفولتي، وكيف كنا نعيش حياةً بسيطةً قبل أن نعرف الكهرباء ووسائل الحياة الحديثة.
وفي تلك الليلة ظلت ذكريات الماضي تسيطر على فكري فاستسلمت لها، وطار النوم عن عيني. وبينما أنا أتقلب في فراشي مصارعاً أرقي قلت:
سَلا النومُ عن عينيْ ولم أدرِ ما يُسلي وناشدتُه وصلاً فـما سَّرهُ وَصْلي
فقمت من سريري وجلست على مكتب في الصالة المجاورة لغرفة النوم لأكتب البيت قبل أن أنساه. ثم أضفت عليه أبياتاً أخرى قبل أن أعود إلى سريري مرتاحاً مستسلماً لنوم ينتظرني. وفي صباح اليوم التالي بينما الأهل والأطفال في نوم عميق قمت متحمساً لقراءة القصيدة. قرأت الأبيات التي تسليت بها في المساء وزدت عليها ما تيسر في ذلك الصباح الهادئ. فسيطرت ذكريات الطفولة على ما كتبت، ولقد اعترفت في أحد أبيات القصيدة بذلك قائلاً:
بدأتُ بأبيــاتٍ سلـوتُ بنظــمِها فشطَّـتْ إلى عصرِ الطفولةِ والجهلِ
ثم جعلت عادتي اليومية أثناء إجازتي في باريس أن أقوم لأتفرغ للقصيدة، واستغل الهدوء من الساعة السادسة صباحاً حتى يستيقظ الأطفال بعد الساعة الواحدة ظهراً. ولقد كتبت عدة مقطوعات في باريس. وخلال السنوات التالية كنت أضيف مقطوعات أخرى في الإجازات وأطول المقطوعات كتبتها أثناء إجازاتي في خارج البلاد. ففي سنة 1997 شاءت الظروف أن أقضي ما يقرب من الشهر في لندن بدون الأهل والأطفال، فكتبت عدة مقطوعات أذكر منها (أمي وأبي والسراج). ولا شك أن بعدي عن الوالد المريض والوالدة آنذاك وشوقي إليهما قد فجرا مشاعري في الأبيات التي كتبتها عنهما.
ولست أدري هل ذكرياتي أرغمتني على الحديث عن أيام الطفولة والصبا، أم أن رغبتي في أن يعرف أطفالي قصص طفولتي، حددت لي منهج القصيدة أم أن القصيدة نفسها أو جنّـيّها سيطر على ما أكتب، أم أن جميع تلك العوامل اشتركت في توجيه القصيدة.
لا شك أني كنت حريصاً جداً على أن يعرف أطفالي كيف كانت الحياة والبيئة الخليجية أيام طفولتي. لذلك فإني لم أغير ألفاظنا الخليجية التراثية بألفاظ فصيحة في القصيدة. بل شعَرت برغبة قوية في أن أحافظ عليها كما هي بفخر واعتزاز، وأشرحَها لهم، مبيناً أصولها العربية العريقة. وبعد أن قطعت شوطاً في القصيدة، ورأيت الألفاظ الخليجية الكثيرة التي برزت فيها، واندثار بعضها، شعرت بالحزن لأن لغتنا الخليجية بدأت تنقرض، وأطفالنا يجهلون الكثير من ألفاظنا التراثية. وخلال أربعين سنة من عمري لاحظت اختفاء بعض الألفاظ الخليجية من التداول، وخاصة الألفاظ المتعلقة بالبيئة البحرية والزراعية. وقد لا يعرف أطفالنا ولا إخواننا العرب خارج الخليج أن ألفاظنا لها أصول لغوية تحتم علينا المحافظة عليها كتراث. وقد ذكرت ذلك قائلاً:
فغابت عـنِ الأطفـالِ آثارُ قومِنا وغابَ تراثُ الأمسِ عن مُهجةِ الطفلِ
وضاعت مع الأمواتِ ألفاظُ قومِنا فيا ويحَ نَفسي سوف يَجـهلُها نَجْلي!
فما عرفَ العُـربــانُ أنَّ كلامَنا تُراثٌ عريقٌ في الفَصــاحةِ والأصلِ
فلو قرأ أديب أو لغوي غير خليجي أحد أبيات اللامية التي تعرضت فيها للبيئة الخليجية مثل:
تَغَبّبَتُ والأصحابَ نصـطادُ قُبْقُباً ومِـقرافُه كـالسيـفِ جُرِّدَ للـقتلِ
فلن يعرف المقصود بالتغبب في البحر والقبقب والمقراف لأن معانيها الخليجية غير مذكورة في قواميس اللغة، مع أن جذور الكلمات موجود في القواميس، ولها معانٍ أخرى، ولكن لن يجد أي خليجي من جيلي ولو كان أمياً صعوبة في معرفة تلك الألفاظ المذكورة.
ولأني ولدت ونشأت صغيراً في رأس الخيمة، فإن ألفاظ رأس الخيمة خاصة، وألفاظ دولة الإمارات العربية المتحدة عامة، حازت على نصيب الأسد من الألفاظ الخليجية في اللامية. ولكني درست ثلاث سنوات من صباي في الكويت ثم أكملت بقية دراستي وحياتي في قطر. أي أني نشأت في جنوب الخليج وقضيت فترة من العمر في شماله وعشت أغلب عمري في وسطه، فلم أجد اختلافاً جوهرياً في اللهجات الخليجية في المناطق الثلاث. ولا أنكر أن في كل بلد خليجي بعض الألفاظ الخاصة به، بل قد تختلف اللهجة من حي إلى حي مجاور في مدينة خليجية واحدة، ولكن ذلك لا يشكل عقبة في التفاهم بين الخليجيين.
ولقد قرأت مقتطفات من لاميتي على أصدقاء من معظم الدول الخليجية، فلم يجدوا صعوبة في فهمها. كما قرأت على بعض أمهاتنا وخالاتنا في قطر والإمارات العربية المتحدة بعض المقطوعات وخاصة مقطوعة (أمي) بدون شرح أو تعليق فتفاعلن معها كثيراً.
وتمنيت لو يقوم المختصون من جيلنا في أقطار الخليج بتشكيل هيئة تعتني بلغة الخليج، توثقها في معاجم للأجيال اللاحقة من أبنائنا. وقد نوهت قائلاً:
فإني وأقـرَاني تُراثٌ ومُعـجمٌ سوالِفُنا التاريخُ يُنـقـلُ للنجـلِ
ولقد غلب طابع الحنين لأيام الطفولة والصبا على القصيدة، وهو أمر طبيعي لكل إنسان تتقدم به السن، وذلك من سنن الحياة، ولست وحيداً في التمني "ألا ليت الشباب يعود يوماً" وقد قلت:
أَحِنُّ إلى عصرِ الطفولةِ والصِّبا وعصرٍ به الأحلامُ أمضَى من النَّصْلِ
وفي مقطوعة (العيد) قلت:
ألا يا خيالَ الأمسِ عرِّجْ على عقلي وسرْ بي معَ الأطيافِ طيفاً إلى الوصْلِ
وعُدْ بي إلى عيدِ الصِّبا بعضَ ساعةٍ فما عادَ عيدُ اليومِ يا صـاحبي يُسْلي
واختتمت تلك المقطوعة قائلاً:
إلى مثلِ ذاكَ العيدِ حنَّت جوانِحي وحنَّت إلى عِيْ دِ الصِّبا إخـوةٌ مثْلي
وفي مقطوعة (النخيل) قلت:
فلا العيشُ نفسُ العيشِ يا أختَ نخلةٍ ولا الناسُ نفسُ الناسِ ياعمةَ الأهلِ
بل كررت حنيني في مقطوعة خاصة في النهاية سميتها (الأمس واليوم) بدأتها قائلاً:
أَحِنُّ لعصرِ الأمسِ والعِرشِ والنخلِ وعصرٍ به الخِلاّنُ مجتمـعو الشَّملِ
أَحِنُّ لربعي والربــوعِ ومنـزلي ورمساتِنا في الليلِ طابت على الرملِ
وقد يجد القارئ أن طابع الوصف هو الغالب على أبيات القصيدة، وخاصة وصف العادات والتقاليد الخليجية السائدة في الخمسينات والستينات أثناء طفولتي وصباي، وقد ينم الوصف عن أحاسيس الشاعر نحو الموصوف من تراث وأصدقاء:
رسَمتُ بأشعـاري أحاسيـسَ شاعِرٍ عن الأمسِ والأطـلالِ والأهلِ والخِلِّ
وهو إحساس عميق مفعم بالحب لكل ما في الخليج من بر وبحر:
وأُشهِدُ ربِّي أنَّ حُـبَّ خليـجِنا يشوِّقُني للبومِ والبحــرِ والرّملِ
إني أُدرك أن الناس تَمَّلُ القصائد الطويلة، وتُعرض عن قراءتها، ولكني لم أتوقع أن تزيد القصيدة عن صفحة أو صفحتين عندما بدأتها في باريس قبل عشر سنوات. فبمرور السنين الطويلة، طالت القصيدة بدون قصد حتى زادت عن ألف بيت. فتواتر الذكريات العديدة وتفاعلها مع مشاعري الشخصية أملى علي الاسترسال في الوصف وأطال القصيدة. ولا أنكر أني وجدت تسلية ذاتية في كتابتها وقراءتها كما ذكرت:
خليليَّ هيّا نقـرأِ الشـع رَ سـاعةً فلامِـيّـتي طـالت، وأبيـاتُها تُسلي
سلوتُ بذاكَ العصرِ في كـلِّ لحظةٍ وليس بهذا العصرِ للنفسِ مـا يُسلي
وختمت القصيدة قائلاً:
سلامي على أمسي ويومي وصُحبتي وقُرّاءِ أشعاري ذوي الفضلِ والنُّبْلِ
سلامي على ما كانَ أو جـاءَ بعدَنا سَـلامُ مُحـبٍّ للخـلـيجِ وللأهلِ