top of page

مرض قيس النفسي

العشق وجنونه في الطب

لقد اعتبر الأطباء القدامى العشق مرضاً مسبباً لاضطرابات جسمية ونفسية، وقالوا إنه قد يؤدي إلى الموت. لذلك فإني سأستعرض في هذا الفصل ما قاله الأطباء القدامى عن العشق، ثم ما قاله في هذا العصر أطباء الأمراض النفسية عنه. ثم سأستعرض ما قال قيس من أشعار تطابق وتدعم ما قاله الأطباء.

 

العشق عند الأطباء اليونانيين

نقل حنين بن إسحاق في كتاب نوادر الفلاسفة ما قاله أبقراط اليوناني المعروف بأبي الطب: "إن المحبة قد تقع بين عاقلين من باب تشاكلهما في العقل، ولا تقع بين الأحمقين، لأن العقل يجري على ترتيب، فيجوز أن يتفق فيه اثنان على طريق واحد. والحمق لا يجري على ترتيب، فلا يجوز أن يقع فيه اتفاق بين اثنين"(1).

وقال أبقراط: "للقلب آفتان هما الغم والهم.... وذلك أن الهم، فيه فكر في الخوف بما سيكون، ومنه يكون السهر. والغم لا فكر فيه، لأنه إنما يكون بما قد مضى وانقضى". وقال: "القلب من دم جامد، والغم يهيج الحرارة الغريزية، فتلك الحرارة تذيب جامد الدم"(1).

 

فالأطباء اليونانيون القدامى يعتقدون أن القلب مثل الفرن الذي يولِّد الحرارة للجسم، وأن الحب والعشق يزيدان حرارة القلب.

 

قد تكون كلمة الفؤاد العربية قد اشتقت واستنتجت من الطب القديم. فالأطباء الإغريق اعتقدوا أن القلبَ بمثابة الفُرن للجسم. وكذلك قال فلاسفتهم، فأفلاطون (427-347 ق. م. Plato) من أعظم فلاسفة اليونان قال إن العاطفة والحرارة مركزهما القلب. والغريب أن نفس الفكرة سائدةً عند العرب. ففي لسان العرب لابن منظور فأدَ اللحم: شواه، والتفؤّد: التوقد، والفؤاد: القلب لتفؤده وتوقده. وذكر في تاج العروس: "وقيل إنما يقال للقَلْبِ: الفُؤَادُ، إذا اعتُبِرَ فيه معنَى التَّفؤُّدِ، أَي التَّوَقُّد".

 

 الحب ونار القلب:

ومن هذه الأفكار الطبية البدائية والفلسفة اليونانية انتقل إلى العرب أن العشق يهيج التفؤّد في القلب أي حرارته، وقد أسهب قيس بن الملوح في ترداد تلك الأفكار في أشعاره وكررها مراراً حيث قال:

 

ذَكَت نارُ شَوقي في فُؤادي فَأَصبَحَت   لَها وَهَجٌ مُستَضرَمٌ في فُؤادِيا

 

ووصف الحبَّ بالنار التي تحرق قلوب العشاق:

وَجَدتُ  الحُبَّ  نيراناً  تَلَظّى       قُلـــوبُ  العاشِقينَ  لَها  وَقودُ

وفي البيت التالي ادعى أن نار القلب تشتعل في الفؤاد، وكأن الفؤاد جزء من القلب وليس القلب نفسه:

وَإِنِّيَ  وَلهانٌ  بِها   وَمُتَيَّمٌ       وَنيرانُ  قَلبي  في  الفُؤادِ  سَعيرُها

وفي معاجم اللغة ما يدل على أن هناك من يؤيد مثل ذلك. فتاج العروس ذكر: "أن الفُؤادَ والقَلْبَ مُترَادِفانِ ... والأَكثرُ على التفرقة. فقال الأزهريُّ: القلب مُضْغَةٌ في الفُؤَادِ، مُعَلَّقَةٌ بالنِّيَاطِ، وبهذا جَزَمَ الوحِديُّ وغيرُه. وقيل: الفُؤادُ: وعاءُ القلْبِ، أَو داخِلُه، أَو غِشاؤُه، والقَلْبُ حَبَّتُه ... وقيل: القَلْب أَخَصُّ من الفُؤادِ، ومنه حديث: "أَتاكُم أَهلُ اليمنِ هم أَرَقُّ قُلوباً، وأَلْيَنُ أَفْئِدَةً" فوصَفَ القُلُوبَ بالرِّقَّةِ، والأَفئدةَ باللِّين".

 

وقال المجنون إن نار حبه أحر من الجمر:

فَإِنَّ لَهيبَ النارِ بَينَ جَوانِحي       إِذا ذُكِرَت لَيلى أَحَرُّ مِنَ الجَمرِ

وزاد على ذلك قائلاً: إن حرارة قلبه قادرة على إحراق الجمر لشدتها:

هَلِ الوَجدُ إلا أَنَّ قَلبِيَ لَو دَنا     مِنَ الجَمرِ قَيدَ الرُمحِ لاحتَرَقَ الجَمرُ

 

ولما رأى رجلاً كلما حاول أن يوقد ناراً أخمدتها أمطار الشتاء قال:

 

يا  مُوقِدَ  النارِ  يُذكيها    وَيُخمِدُها       قُرُّ  الشِتاءِ   بِأَريـاحٍ  وَأَمطارِ

قُم فَاصطَلِ النارَ مِن قَلبي مُضَرَّمَةً       فَالشوقُ يُضرِمُها يا مُوقِدَ النارِ

 

الحب في القلب:

ومن كلام أبقراط في العشق: "إن العشق طمع يتولد في القلب ويجتمع فيه مواد من الحرص، فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة السهر، وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء... ومن طغيان السوداء فساد الفكر...ونقصان العقل.. حتى يؤدي ذلك إلى الجنون. فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه. وربما وصل إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً... وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحب كيف يهرب دمه ويستحيل لونه"(1).

 

وقال الطبيب اليوناني الشهير جالينوس: "الهمُّ فناء القلب والغمُّ مرض القلب...الغمُّ بما كان والهمُّ بما سيكون...الغمُّ بما فات والهمُّ بما هو آت، فإياك والغمّ فإن الغمّ ذهاب الحياة"(2).

وقال: "العشق استحسان ينضاف إليه طمع. العشق من فعل النفس، وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد". وقال: "في الدماغ ثلاث قوى، التخيل في مقدم الرأس، والفكر في وسطه، والذِّكر في مؤخره...فإذا فارق (العاشق) من يعشقه، لم يخل من تخيله وفكره وذكره قلبه وكبده. فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والذكر له والفكر فيه، فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به. فمتى لم تشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً. فإذا لقيه خلت هذه المساكن". وقال حُنين بن إسحاق: وكان منقوشاً على فص خاتم جالينوس "من كتم داءه أعياه شفاؤه"(2).

 

فاليونانيون أخذوا تلك الأفكار الطبية البدائية من حضارات سبقتهم، فطوروها وزادوا عليها. فالمصريون القدامى سبقوا اليونانيين في ربط الحب بالقلب، كما أن البابليين سبقوا اليونانيين بربط الكبد بالحب. ولا يستبعد أن العرب أخذوا الربط بين الحب والكبد من البابليين مباشرة. ومن أشهر ما يتمثل به في هذا الخصوص بيت المعلّى الطائي(3):

وإنّما  أولادنا  بــيـننا        أكبادنا  تمشي  على  الأرضِ

أما المجنون فقال:

خَليلَيَّ شُدّا بِالعِمامَةِ وَاحزِما   عَلى كَبِدٍ قَد بانَ صَدعاً عَمودُها

 

العشق عند الأطباء العرب والمسلمين 

العشق عند ابن سينا: 

قال ابن سينا عن العشق: "هذا مرض وَسواسي شبيه بالمالنخوليا (الحزن والكآبة)، يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل، ثم أعانته على ذلك شهوته أو لم تعن. وعلاماته: غور العين ويبسها وعدم الدمع إلا عند البكاء، وحركة متصلة للجفن ضحّاكة كأنه ينظر إلى شيءٍ لذيذ أو يسمع خبراً سارًّا أو يمزح. ويكون نفَسُه كثير الانقطاع والاسترداد، فيكون كثير الصعداء، ويتغير حاله إلى فرح وضحك أو إلى غمٍّ وبكاء عند سماع الغزل، ولاسيما عند ذكر الهجر والنوى. وتكون جميع أعضائه ذابلة، خلا العين فإنها تكون مع غور مقلتها كبيرة الجفن، لسهره وتزفُّره المنجر إلى رأسه. ولا يكون لشمائله نظام. ويكون نبضه نبضاً مختلفاً بلا نظام البتة، كبعض أصحاب الهموم. ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصة وعند لقائه بغتة. ويمكن من ذلك أن يستدل على المعشوق أنه مَنْ هو إذا لم يعترف به، فإن معرفة معشوقه أحد سبل علاجه. والحيلة في ذلك أن تُذكر أسماءٌ كثيرة، تعاد مراراً وتكون اليد على نبضه، فإذا اختلف بذلك اختلافاً عظيماً وصار شبه المنقطع ثم عاود، وجربت ذلك مراراً، علمت أنه اسم المعشوق. ثم يذكر كذلك السكك والمساكن والحرف والصناعات والنسب والبلدان. وتضيف كُلاًّ منها إلى اسم المعشوق. ويحفظ النبض حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيءٍ واحد مراراً، جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحلية والحرفة وعرفته. فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان في الوقوف عليه منفعة. ثم إن لم تجد علاجاً إلا تدبير الجمع بينهما على وجه يحله الدين والشريعة فعلت. وقد رأينا مَن عاودته السلامة والقوة وعاد لحمه، وكان قد بلغ الذبول وجاوز، وقاسى الأمراض الصعبة المزمنة والحميات الطويلة بسبب ضعف القوة لشدة العشق"(4).

 

فابن سينا هنا يقول إن شدة العشق تضعف القوة الجسمية، فتزداد أو تستفحل الحميات والأمراض. وفي العصر الحالي نسمي تلك القوة الجسمية: المناعة أو الحصانة الجسمية. والجدير بالذكر أن الطب الحديث بيّن أن العشق أو الضغط النفسي يضعف حصانة الجسم.

 

وهناك حالة شهيرة شخصها ابن سينا بالأسلوب المذكور أعلاه. فقد عُرض عليه شاب مريض نحيل، عجز الأطباء عن معرفة مرضه. فلم يجد ابن سينا أعراض مرض عضوي لما سأله وفحصه. فطلب من يخبره عن أسماء كل عائلة في الحي وأسماء أفرادها، ومريضه الشاب يستمع بينما يجس ابن سينا نبض الشاب. فلما ذُكر بيت معين زادت نبضات قلب الشاب، ثم ارتفعت النبضات أكثر عندما ذُكر اسم فتاة في ذلك البيت. فكتب ابن سينا اسم الفتاة وأعطاه لعائلة الفتى وقال هذا هو العلاج.

 

اعتبر ابن سينا أن الحب من القوى الحيوانية في أرجوزته الطبية قائلاً(5):

والحيوانيـــة         قـوتانِ       كلاهما   أفعالُها   قِسمانِ

إحداهما   فاعـلة  للنبضِ       ببسط شرياناتها   والقبضِ

وأختها  تنفعــلُ    انفعالا       لكل شيءٍ تُحدث  الأفعالا

كالحُبِّ للشيء أو الكراههْ      أو ذِلّةِ  النفسِ أو  النباههْ 

 

وقال عن تأثير الحزن في الإنسان:

والحزنُ قد يقضي على المهزولِ          ويدفع المحتاجَ للنحولِ (6) 

وجعل نبض القلب مفتاحاً لسر العلل:

والقلبُ إن جرى على القوامِ         في  نبضه  فالحالُ  في  سلامِ

والنبضُ إن  نبا عن المعتادِ         من طبعه،  دلَّ  على  الفـسادِ

ودلَّ  بالخلافِ  في الأنباضِ        على ضُروبِ السَّقمِ والأمراضِ (7)

 

العشق عند ابن النفيس:

أما الطبيب العربي ابن النفيس، فاعتبر العشق نوعاً من أنواع (الماليخوليا)، وقال إنه داء يعتري العزاب والبطّالين والرَّعاع، وسببه إفراط في الفكرة في استحسان بعض الصور والشمائل، وربما لم يكن معه شهوة مجامعة. وعلاماته: غور العينين وجفافهما إلا عند البكاء، وسِمن الجفن للسهر، وسهو وهُزال وتنفسُ الصعداء(8).

ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه وبذكر أسماء وصفات، فأيها اختلف عنده النبض وتغير لون الوجه عرف أنه هو(8).

أما علاج العشق، فقال ابن النفيس: "لا شيء كالوصال". وهو العلاج الذي نوه به المجنون حيث قال:

وَقالوا بِهِ داءٌ قَدَ اعيا دَواؤُهُ              وَقَد عَلِمَت نَفسي مَكانَ شِفائِيا (9)

 

العشق في طب الأمراض النفسية الحديث

أما العشق في الطب النفسي الحديث، فإنه لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث، ولكنه يعتبر أمراً خطيراً. فهذا أحد أطباء الأمراض النفسية المهتم بالعشق والأمراض الناتجة عن الحرمان من الوصال بين العاشق والمعشوق (د. رشرد روس)، يقول في مقال عن صدمة العشق أو مأساة الحب: 

"إن صدمة الفشل في الحب نتيجة الحرمان من الوصال تعتبر كارثة مأساوية، يمكن أن نسميها "مأساة الحب"، تؤدي إلى حزن وكآبة وقلق وتلهف وتوق شديد للمحبوب، وأحياناً الرغبة في الموت. فهذه الكارثة المأساوية الناتجة عن رفض المحب تسبب الشعور بالإذلال والأسى والحزن وعدم جدوى الحياة وفعاليتها"(10). وهذه الأعراض اشتكى منها قيس قائلاً:

أَلا فَارحَمي صَبًّا كَئيبًا مُعَذَّبًا       حَريقُ الحَشا مُضنى الفُؤادِ حَزينُ

وأضاف طبيب الأمراض النفسية المذكور أعلاه: "فالمشاكل العقلية الناتجة عن مأساة الحب وخيمة وخطرة. ومن الواضح أن بعض الناس معرض لها أكثر من غيرهم لأسباب وراثية أو اجتماعية. فالإحساس بالصدمة المأساوية للحب ومضاعفاتها تختلف من شخص لآخر"(10)

 

وقد اعتبر بعض أطباء الأمراض النفسية العشقَ اضطراباً عصبيًّا بقلق (Anxiety Neurosis) حيث يؤدي القلق العصبي إلى خوف ورعب مع أعراض جسمية تتلخص بما يلي:

توتر عصبي مزعج، وشعور بازدياد دقات القلب وقوتها، وإحساس بوخز حادّ في الصدر لمدة ثوان غير متعلق بمجهود عضلي. وخلافاً لمرض القلب الحقيقي فإن الوخز لا يتلاشى بالراحة، بل قد يأتي أثناء الراحة في السرير. وهناك شعور بصعوبة التنفس وعدم القدرة على أخذ نفس كاف. وازدياد سرعة التنفس والشعور بالحاجة للخروج إلى الفضاء الطلق لاستنشاق الهواء. وسرعة التنفس قد تسبب قلوية الدم(11).

 

وقد عبر قيس عمّا يعتريه من مثل تلك الصعوبة في التنفس قائلاً:

إِذا ذَكَرَتها  النفسُ  ماتَت  صَبابَةً       لَها  زَفــرَةٌ  قَتّالَةٌ  وَشَهيقُ

وقلوية الدم قد تسبب انكماشاً في الشريان التاجي للقلب ينتج عنه ألم في الصدر، قد يؤدي إلى الجلطة القلبية والوفاة في الحالات النادرة.

والتحليلات النفسية لفرويد تتناقض تناقضاً تامًّا مع رفعة وسمو الحب العذري، حيث جعل فرويد أساس العشق أو الحب رغبة جنسية منذ الولادة. ولذلك لم أجد بيتاً في أشعار قيس بن الملوح يتماشى مع أفكار فرويد الجنسية في العشق. بل وجدت عكس ذلك عفة يتغنى بها كقوله:

أحبك  يا ليلى  على  غـير  ريبةٍ      وما خيرُ حبٍّ  لا تَعِفُّ ضمائرهْ؟

بل أقسم على نقاء وطهر حبه قائلاً:

وَوَاللَهِ ما أَحبَبتُ حُبَّكِ فَاعلَمي       لِنُكرٍ وَلا أَحبَبتُ حُبَّكِ مَأثَما

 

ففي نظرية فرويد التي ذكرتها سابقاً أن اختيار الشخصِ لمن يحب نابع من حب الشخص لنفسه "حب الذات". فقد يعشق الإنسان من شابهَ الشخص الذي اعتنى به صغيراً.

ويعتقد فرويد أن الشخص يحب ذاته منذ الولادة. وأن الرغبة الجنسية مخزونة في الذات أثناء الطفولة. وأن توفير المربي للراحة وإزالة التوتر عن الطفل، يجعل الطفل يحول الرغبة الجنسية من الذات إلى الخارج. فبيئة الحب لا توجد في حد ذاتها فحسب، بل من الممكن للفرد أن يخلقها لنفسه. كما يستطيع الإنسان أن يشفي نفسه مؤقتاً من عجزه وضعفه بجعل شخص آخر يحبه مع كل ما فيه من نقص. فكل من الحبيبين يشفي الآخر من الشعور بالنقص، وكل يشعر أنه جزء من الثاني (12).

 

أما لماذا يصاب بعض الناس فقط بالعشق المؤدي إلى الجنون؟ فاختلف أطباء النفس المختصون في الأسباب، وإن كان الأغلب يعتقد أنها نتيجة لمعانات خاصة أيام الطفولة، إذ اعتبر بعضهم العشق مرضاً إدمانيًّا على حب شخص، نتيجة للشعور بالحرمان أيام الطفولة، أو أن العاشق كان منبوذاً أو مهملاً أو محروماً أيام طفولته(13).   

 

ولم أجد في سيرة المجنون ما يدل على أنه كان منبوذاً أو محروماً في طفولته، أو كان يعامل بقسوة. وكونه كلف برعي أغنام أهله صبيًّا لا يدل على قسوة أو تفرقة، فقد يكون أخوته قد كلفوا بذلك أيضاً. كما أنه لم يتذمر من الرعي الذي جمعه مع ليلى صغيراً. ولقد تذمر مرة من أهله قائلاً:

يُعاشِرُني في الدارِ مَن لا أَوَدُّهُ       وَفي الرَّحلِ مَهجورٌ إِلَيَّ حَبيبُ

وقد يكون ذلك شعوراً آنيًّا مؤقتاً لوضع طارئ، لأنه لم يكرر مثل ذلك التذمر في أشعاره.

 

لقد ذكر الدكتور (رشرد روس) طبيب الأمراض النفسية المذكور سابقاً في كتابه "مأساة الحب: حرر نفسك من آلام القلب المكسور":

إن ذكريات العاشق الكثيرة تقتحم من ماضيه حاضره، وتؤثر في فكره وتصرفاته أكثر من المتوقع. كما أنها قد تسبب مشاكل أخرى، مثل تجنب علاقة حب جديدة وقلق وهمٌّ والشعور بالبعد عن الواقع والغضب وقلة النوم (14).

 

وذكر قيس مثل تلك الأعراض، واشتكى منها قائلاً:

يَبيتُ ضَجيعَ الهَمِّ ما يَطعَمُ الكَرى       يُنادي إِلَهي  قَد لَقيتُ  الدَّواهِيا

 

وأضاف الطبيب (روس): أن مأساة الحب تسبب اضطرابات نفسية أخرى كالكآبة وعدم القدرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية. فالمصاب قد يشعر بالوحدة والخجل، كما أن الصدمة العاطفية للعاشق تجعله غير قادر على الاستمتاع بالحياة والتعامل مع الناس أو القيام بعمل نافع. وقد يقتل العاشق نفسه.

 

ولقد اشتكى قيس الكثير من مثل تلك الأعراض التي ذكرتها بإسهاب وتفصيل في فصل (أعراض عشق قيس بن الملح)، حتى عن الرغبة في الانتحار قال المجنون:

 

لَقَد هَمَّ قَيسٌ  أَن  يَزُجَّ  بِنَفسِهِ       وَيَرمي بِها مِن ذُروَةِ الجَبَلِ الصَّعبِ

وقال:

عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ       وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا

 

وأكد الدكتور (روس) أن أغلب المصابين بداء العشق يعاني مصيبته منفرداً صامتاً بدون أي عنف، ولكن هناك القليلَ من العشاق من يضطر إلى العنف والرغبة في العدوان(14).

 

تشاؤم العشاق بالغربان

ولكن المتتبع لسير الشعراء العذريين لا يجد في سيرهم ميولاً للعنف والعدوان، إلا نحو الغراب الذي يتهمونه بالشؤم، وبأنه يفرق بين المحبين. ولقد ورث الشعراء العذريون التشاؤم والطِّيرة من الغراب عن أجدادهم العرب في العصر الجاهلي. فقد لاحظ العرب أن الغراب يحل في البيوت المهجورة التي بان أهلها عنها، فربطوا بين الغراب والبين أو فراق الأحبة، فأطلقوا عليه غراب البين، وصبوا عليه جام غضبهم، وعزوا إليه ما هم فيه من سوء الحال. وهكذا أصبح الغراب مسؤولاً عن حدوث البين عند العذريين.

 

وذكر الجاحظ الغربان قائلاً: "ومن الغِربان غراب الليل، وهو الذي ترك أخلاقَ الغربان وتشبَّه بأخلاق البوم. ومنها غرابُ البَينِ. وغراب البين نوعان: أحدهما غربانٌ صغارٌ معروفةٌ بالضَّعف واللُّؤم، والآخر " كُلُّ غرابٍ يُتَشاءَم به. وإنما لزمه هذا الاسم لأن الغراب إذا بان أهلُ الدار للنُّجعة، وقع في مرابض بيوتهم يلتمس ويتقمَّم، فيتشاءمون به ويتطيَّرون منه؛ إذ كان لا يعتري منازلهم إلا إذا بانوا، فسمَّوه غراب البين. ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم له مخافة الزَّجر والطِّيرَةِ، وعلموا أنه نافذ البصر صافي العين - حتى قالوا أصفى من عينِ الغراب، فسمّوه الأعور كنايةً. ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقُّوا من اسمه الغربة، والاغتراب، والغريب. وليس في الأرض بارحٌ ولا نَطيح، ولا قَعيد، ولا أَعضب ولا شيءٌ مما يتشاءمون به إلا والغرابُ عندَهم أنكدُ منه" (15).

 وقد ظهرت ميول المجنون العدوانية نحو عدوه الغراب لما رآه على شجرة ينعب، فدنا منه داعياً عليه بأن يُنتف ريشه، ويُقطع عظم جناحه، وينقرض نسله، ويُكسر بيضه، ويُقطع لحمه، قبل أن يموت كما قال:

 

ألا يا غراب البين  هيَّجتَ  لوعتي        فويحك  خبّرني بما  أنت   تصرُخُ

أبالبينِ من ليلى؟ فإن كنتَ صادقاً        فلا زال عظمٌ  من  جناحك  يُفسخُ

ولا زال  رامٍ   فيك    فوّق  سهمه        فلا أنت في عشٍّ  ولا أنت   تُفرخُ (أ)

ولا زلت  عن عذب  المياه  منفَّراً        ووكرك  مهدوماً  وبيضكَ   يُرضخُ (ب)

فإن طرتَ أردتك الحتوفُ وإن تقعْ        تقَيَّض  ثعبانٌ    بـوجـهك    ينفُخُ (ت)

وعانيتَ قبل الموتِ لحمَكَ مشدخاً        على حرِّ جمرِ النار يُشوى ويُطبخُ (ث)

ولا زلتَ  في  شرِّ  العذاب مخلَّداً        وريشك  منتوفٌ   ولحمك   يشرخُ

 

فالغربان التي سماها الشحاج تخيفه كما تخيف العاشقين وتجعله يبكي، لذلك دعا عليها بالذبح قائلاً:

 

أمن أجل غربانٍ  تَصايحنَ  غدوةً          ببينونة الأحباب  دمعكَ   سافحُ؟

نعم  جادت  العينان  مني  بعبرةٍ          كما سُلَّ من نظم اللآلي  تطارُحُ

ألا يا غراب البين لا صحتَ بعده         وأُمكِنَ من   أوداجِ  حلقك  ذابحُ

يَروعُ قلوب العاشقين ذوي  الهوى         إذا أمنوا التشحاجَ   أنك  صائحُ (ج)

وقال:

أَلا  يا غُرابَ  البَينِ  ما لَكَ  كُلَّما       تَذَكَّرتُ لَيلى طِرتَ لي عَن شِمالِيا؟

أَعِندَكَ عِلمُ الغَيبِ أَم أَنتَ مُخبِري       عَنِ  الحَيِّ  إِلا  بِالَّذي  قَد بَدا لِيا؟

فَلا حَمَلَت  رِجلاكَ  عُشًّا  لِبَيضَةٍ       وَلا  زالَ  عَظمٌ  مِن جَناحِكَ واهِيا

 

فالواضح أن شاعرنا قد عانى الكثير من الأعراض النفسية التي كررها في أشعاره. وتلك هي أعراض العشق التي ذكرها الأطباء القدامى وأطباء الأمراض النفسية في العصر الحديث. وليس هناك شك في شدة عشق قيس القائل:

أرى النَفسَ عَن لَيلى أَبَت أَن تَطيعَني       فَقَد جُنَّ مِن وَجدي بِلَيلى جُنونُها

وقال:

لَعَمرُكِ إِنَّ   الحُبَّ  يا  أُمَّ  مالِكٍ          بِقَلبي بَراني اللَهُ مِنهُ لَلاصِقُ

شرح المفردات:

أ‌.   فوق: الفوقُ رأس السهم حيث يوضع الوتر، وفُوّق السهم أصلح فوقه وأعد للرمي.

ب‌.  يرضخ: يكسر.

ت‌.  تقيض: تهيأ

ث‌.  مشدخاً: مكسراً مهشماً.

ج‌.  الشحيج والتشحاج: صوت الغراب والحمار، وغراب شحّاج أي كثير الشحيج، وقيل شحيج الغراب: ترجيع صوته، وإن مد رأسه قيل نعب.

المراجع:

1.    ابن أبي صبيعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء الجزء الأول ص 49، دار الثقافة –بيروت 1979م.

2.    نفس المرجع ص 133-134.

3.    أحمد تيمور: الحب عند العرب – دار المعارف للطباعة والنشر- تونس-1993 ص29.

4.    ابن سينا: القانون. المجلد الثاني- الكتاب الثالث المقالة الرابعة، في أمراض الرأس، فصل في العشق، ص71 – دار الفكر –  بالأفست عن طبعة بولاق.

5.     من مؤلفات ابن سينا الطبية: الأرجوزة في الطب- منشورات جامعة حلب والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1984م. ص 99.

6.    نفس المرجع ص 106.

7.    نفس المرجع ص 116.

8.     ابن النفيس: الموجز في الطب – لجنة إحياء التراث الإسلامي – القاهرة 1986م، ص142.

9.    عبد الرحمن المصطاوي: ديوان مجنون ليلى- دار المعرفة-بيروت 2003.

10.   Richard B. Rosse: Perspectives - Vol. 5, No. 1 - An Argument for Love Trauma Syndrome: An Important and Often Under recognized Form of Traumatic Grief. http://mentalhelp.net/poc/view_doc.php?type=doc&id=400&cn=0&clnt%3Dclnt00001&

11.  A.M. Freedman: Modern Synopsis of Comprehensive Textbook of Psychiatry /11 – The Williams and Wilkins, 1976, P.610

12.  H.F Kapland: Comprehensive Textbook of Psychiatry/V Vol.1 Fifth Edition.

13.  http://www.recovery-man.com/loveaddict.htm

14.  Richard B. Rosse, M.D: THE LOVE TRAUMA SYNDROME: Free Yourself From the Pain of a Broken Heart.http://www.mymotivation.com/relation/thelove.htm

15. الجاحظ: كتاب الحيوان.

bottom of page