top of page

علاقة أمراضه النفسية بالعضوية

دور مرض قيس النفسي في تكوين مرضه العضوي في القلب

الأمراض النفسية والأمراض العضوية: 

لقد كنا نظن ونحن طلبة في كليات الطب، أن هناك جداراً فاصلاً بين الأمراض النفسية والأمراض العضوية، لأن الطب البشري ذو شقين: طب نفسي وطب عضوي. ولكن اتضح لنا فيما بعد أنهما متداخلان. فالأمراض النفسية تسبب أعراضاً جسدية وأمراضاً جسمية، كما أن الأمراض العضوية تسبب أمراضاً نفسية. فإصابة المرء بجلطة قلبية قد تجعله يحس بالقلق والخوف والكآبة. ثم إن الكآبة بسبب الجلطة تزيد الخطورة على القلب وترفع نسبة تكرار الإصابة بالجلطة القلبية.

فالضغط النفسي يسبب الكثير من الأمراض العضوية مثل قرحة المعدة والأمعاء، واضطرابات القولون، وضيق التنفس، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب. ولكن الذي يهمني في هذا البحث عن مرض المجنون هو مرض القلب، لأن المصاب بالضغط النفسي أكثر عرضة لأمراض القلب التي تعجل في وفاته، كما بينتها الدراسات الطبية الحديثة التي سأذكرها. ولكن المجنون سبقني في القول إن مرضه - وهو الضغط النفسي المزمن الذي سماه الحب - يعجل في الوفاة:

 

فَلا غَروَ أَنَّ الحُبَّ لِلمَرءِ قاتِلٌ       يُقَلِّبُهُ ما شاءَ  جَنباً إِلى  جَنبِ

فَيَسقيهِ كَأسَ المَوتِ قَبلَ أَوانِهِ      وَيورِدُهُ  قَبلَ المَماتِ إِلى التُربِ

 

أمراض عضوية بسبب الضغط النفسي:

لقد اتضح لنا حديثاً أن الضغط النفسي أو الإجهاد العاطفي، يسبب ضعفاً شديداً حادًّا في عضلة قلب الشخص السليم من الأمراض، تنتج عنه أعراض مشابهة لأعراض مرض ضعف القلب الناتج عن الجلطة القلبية أو مرض شرايين القلب. وقد أُثبت ذلك الضعف في عضلة القلب بالتصوير التشخيصي. وقد يقود الفشل الحاد للقلب بسبب الأزمة العاطفية إلى الوفاة، ولكنْ خلافاً للمصاب بمرض شرايين القلب، إن "محطم القلب" بسبب المشاكل العاطفية، غالباً ما يُشفى من ضعف العضلة خلال أيام. وقد بينت دراسة حديثة، أن المصابين بفشل قلبي بسبب الإجهاد العاطفي الشديد، ترتفع عندهم إفرازات الهرمونات العصبية Catecholamines: epinephrine, norepinephrine, and dopamine) ) بين سبع مرات وأربع وثلاثين مرة عن المعدل الطبيعي(1).

 

وبينت دراسات عديدة حديثاً بوضوح، أنّ العوامل النفسية تسهم بشكل ملحوظ في تكوين أمراض عضوية كمرض تصلب شرايين القلب. فكلما زادت الحالات النفسية وتعددت في شخص واحد زادت الخطورة عليه.

كما أن هناك إثباتات مخبرية من تجاربَ على الحيوانات وخاصة القرود، تؤكد أن الضغط النفسي المزمن وما يسببه من إفرازات هرمونية مرتبطة بالأعصاب (sympathetic nervous system)، يفاقم مرض تصلب الشرايين. كما يزيد سرعة نبض القلب وضغط الدم.

 

وبينت تجارب مخبرية أخرى أن الضغط النفسي الحاد يسبب تقلص الشريان التاجي للقلب، فيقل تدفق الدم فيه، كما يسبب اختناقاً لعضلات القلب ويؤدي إلى الوفاة. كما أن الضغط النفسي ينشط التصاق الصفائح الدموية المسؤولة عن تجلط الدم(2).

 

والواضح لي، كطبيب مختص في أمراض القلب، أن العوامل المذكورة أعلاه، تعجِّل في وفاة المصاب بالضغط النفسي، حيث إن تقلص شريان القلب يعوق تدفق الدم الذي يغذي القلب ويمده بالأكسجين الضروري للحياة. بينما التصاق الصفائح الدموية يزيد الطين بلّة، فيسبب انسداداً في الشريان التاجي للقلب ويعوق وصول الدم إليه. وهكذا يقل إمداد القلب بالأكسجين. في حين أن ارتفاع ضغط الدم وسرعة نبضات القلب المذكور أعلاه، يزيدان الحاجة إلى أكسجين أكثر. فالضغط النفسي يزيد الحاجة للأكسجين، بينما يقلل إمداد الأكسجين المتوافر، فيؤدي إلى اختناق القلب ووفاة المصاب.

 

ولقد تبين أن خمس حالات من الأعراض أو الأمراض النفسية التي سأفصلها أدناه تشكل خطورة كبيرة على القلب. وهي أعراض لمرض نفسي دفين ، مجهول أو معلوم. وأنا أميل إلى تسميتها بالأمراض بدلاً من الأعراض هنا لا لأنها مزمنة ولا يعرف سبب عضوي لها فحسب، ولكن لأنها مسببات لمرض وهو مرض القلب. وهذه الأمراض هي:

1- الكآبة.

 2- القلق.

 3- علامات أو سمات تدل على اضطرابات شخصية وسلوكية.

 4- العزلة الاجتماعيّة.

5- الضغط النفسي المزمن.

 سأستعرض هذه الأمراض أو المشاكل في الفقرات التالية وسأبين ما ينطبق منها على مريضنا قيس وما لا ينطبق.
 

الكآبة: 

تسبب الكآبة قلة الشهية وأرقاً وضعفاً عامًّا وعدم القدرة على التركيز الذهني، والشعور بالذنب. كما يجعل المصاب يحس بأنه عديم الجدوى وله رغبة في الموت. وقد صرح بذلك المجنون قائلاً:

أَلا فَاذكُري ما قَد بَقي مِن حُشاشَتي       فَقَد حانَ مَوتي وَالمَماتَ أُريدُ

وقال:

لَقَد هَمَّ قَيسٌ  أَن  يَزُجَّ  بِنَفسِهِ       وَيَرمي بِها مِن ذُروَةِ الجَبَلِ الصَعبِ

 

وكان قيس يعاني تلك الحالات الناتجة عن الكآبة أعلاه، كما ذكرتها في فصل (أعراض عشق قيس بن الملوح). ومن أخطر أعراض الكآبة الشعور بعدم جدوى الحياة، وبأن الحياة لا قيمة لها، حيث إن المصابين بهذه الأعراض، بالإضافة إلى الرغبة في الانتحار، يتعرضون للإصابة بمرض تصلب شرايين القلب أكثر من غيرهم من الناس بمرتين. كما أنهم معرضون للموت المفاجئ أكثر من غيرهم(3،4). وقد تكون الخطورة على حياتهم نابعةً من كثرة اضطرابات دقات القلب، وزيادة التصاق الصفائح الدموية وزيادة إفرازات هرمونات الكرتزون في الدم(5). واضطرابات دقات القلب وخفقانه من الأعراض الرئيسية البارزة في حياة قيس كما بينتها أشعاره حيث قال:

أَظَلُّ رَزيحَ العَقلِ ما أُطعَمُ الكَرى       وَلِلقَلبِ مِنّي أَنَّةٌ وَخُفوقُ

 وقال:

فَمَن مُبلِغٌ عَنّي الحَبيبَ رِسالَةً       بِأَنَّ فُؤادي دائِمُ الخَفَقانِ

 

والجدير بالذكر أن الضغط النفسي المزمن يثبط من الحصانة الجسمية ضد الأمراض، وقد يكون لهرمونات الكرتزون المرتفعة فيهم - كما ذكرت أعلاه - دور في هبوط الحصانة الجسمية، ولقلة الشهية دور آخر. وجسم الشخص الذي لا يرغب في الحياة لا يقاوم الأمراض مثل جسم الشخص المتشبث بالحياة.

 

القلق:

القلق في اللغة هو الانزعاج، ولكن المعنى الحديث للقلق في الطب النفسي هو الجزع والخوف المصحوب بالهمّ أو الحزن. وفي كتب اللغة كالصحاح يفسر الهَمُّ بالحُزنِ، وتقول "أهَمَّني الأمرُ، إذا أقلقك وحزَنك".

 

من الثابت علميًّا أن القلق مسبب لتصلب شرايين القلب، ويزيد احتمالات الجلطة القلبية، واضطرابات نبضات القلب، ونسبة الوفيات(6).

وشاعرنا قيس كان يعاني الجزع والهمّ والقلق بصورة مزمنة. وقد قال:

فَوَاللَهِ ما أَبكي عَلى يَومِ ميتَتي       وَلَكِنَّني مِن وَشكِ بَينِكِ أَجزَعُ

وقال:

تَبَدَّلتِ مِن جَدواكِ يا أُمَّ مالِكٍ       وَساوِسَ هَمٍّ يَحتَضِرنَ وِسادِيا

 

السمات السلوكية:

لقد بين لنا علماء الطب النفسي الحديث أن بعض السمات السلوكية تشكل خطورة على القلب، وهي مجموعة من الأعراض يطلق على شخصية المصاب بها شخصية "أ"، فهو شخص حاقد غضوب منافس للآخرين ولا يثق بهم. ولقد تبين أن احتمال إصابة مثل ذلك الشخص بالجلطة القلبية تتضاعف خمس مرات عن بقية الناس. وكلما زاد الشعور العدائي نحو الآخرين، زاد ضغط دمه وتعرضه لتصلب شرايين القلب والدماغ(7،8).

 

ولم يكن شاعرنا قيس غضوباً ولا حاقداً على الناس ولا منافساً لهم، وما أبدى شعوراً عدائيًّا إلا نحو الغراب:

 

أَلا يا غُرابَ البَينِ ما لَكَ كُلَّما       تَذَكَّرتُ لَيلى طِرتَ لي عَن شِمالِيا

فَلا حَمَلَت رِجلاكَ عُشًّا لِبَيضَةٍ       وَلا زالَ  عَظمٌ مِن جَناحِكَ واهِيا

 

العزلة الاجتماعية: 

تضاعف العزلة الاجتماعية الإصابة بتصلب شرايين القلب مرتين إلى ثلاث مرات عن غير المعزولين اجتماعيًّا. كما أن وفيات المصابين بتصلب الشرايين تزيد في العزاب ثلاث مرات عنها في المتزوجين(9).

 

أما قيس فقد اختار لنفسه العزلة في الصحراء بعيداً عن الناس بعد أن يئس من منال الزواج بليلى، ويئس من مساعدة الناس له:

وَلازَمتُ القِفارَ بِكُلِّ أَرضٍ       وَعَيشي بِالوُحوشِ نَما وَطابا

وقال:

لَقَد عيلَ صَبري مِن غَرامي وَوَحدَتي    وَعُظمِ اشتِياقي هائِمٌ وَوَحيدُ

 

ضغط الحياة المتواصل والمزمن:

هو الإحساس بالضغط النفسي. وفي الحياة العصرية إن التوتر أو ضغط العمل المتواصل لعدة شهور يزيدان من خطورة الإصابة والوفاة بمرض القلب أربع مرات(10).

 

ومثل ذلك الضغط النفسي المتواصل والتوتر المزمن كان يعانيه المجنون بسبب الحرمان من لقاء ليلى. وقد قال:

أَظَلُّ بِحُزنٍ دائِمٍ وَتَحَسُّرٍ       وَأَشرَبُ كَأساً فيهِ سُمٌّ وَعَلقَمُ

وقال:

يا لَلرِجالِ لِهَمٍّ باتَ يَعروني       مُستَطرِفٍ وَقَديمٍ كادَ يُبليني

وقال:

تَمُرُّ اللَيالي وَالشُهورُ وَلا أَرى       غَرامي لَكُم يَزدادُ إِلا تَمادِيا

 

فقد الحبيب:

فقدُ حبيب من الأهل أو الأصدقاء يسبب ضغطاً نفسيًّا حادًا، ينتج عنه التعرض لمشاكل في القلب، كآلام الصدر أو الجلطة القلبية أو السكتة والوفاة(11).

وصاحبنا المجنون، يحس بأن حياته ليست ذات أهمية إن نأت أو ماتت عنه ليلاه:

 

فَواللَهِ ما أَبكي عَلى يَومِ ميتَتي       وَلَكِنَّني مِن وَشكِ بَينِكِ أَجزَعُ

وقال:

وَلَو أَنَّني إِذ حانَ وَقتُ حِمامِها       أُحَكَّمُ في عُمري لَقاسَمتُها عُمري

فَحَلَّ بِنا الفُقدانُ في ساعَةٍ مَعاً       فَمُتُّ وَلا تَدري  وَماتَت وَلا أَدري

وقال:

أَتارِكَتي لِلمَوتِ إِنّي لَمَيِّتٌ       وَما لِلنفوسِ الهالِكاتِ بَقاءُ

وحتى مرض ليلى كان يعرض قيساً للهلاك:

فَإِن تَكُ لَيلى بِالعِراقِ مَريضَةً       فَإِنِّيَ في بَحرِ الحُتوفِ غَريقُ

 

إن أي ضغط نفسي شديد وحاد، مثل وقوع كارثة طبيعية أو حربية، تزيد الوفيات الناتجة عن إصابات قلبية. فالضغط النفسي يرفع ضغط الدم ويزيد من العوامل والمواد الكيماوية في الجسم التي تسبب تجلط الدم. ففي حرب الخليج سنة 1991، حدث ارتفاع كبير لوفيات القلب في المدن الإسرائيلية، بسبب الخوف والضغط النفسي الناتج عن إطلاق صواريخ عراقية على إسرائيل كما بينتها دراسات طبية(12).

 

وخلاصة هذا الفصل أن الضغط النفسي المزمن خطر على القلب. والدراسات والبحوث الطبية أثبتت أنه يسبب تصلب شرايين القلب، وضغط الدم، واضطراب النبض، والغشيان، وضعف عضلة القلب، والوفاة المبكرة. وحيث إن خطورة هذه الأمور النفسية على القلب ثابتة عندنا في طب القلب فقد ذكرتها في إحدى قصائدي عن المخاطر المسببة للقلب. ومما قلت:

 

لا يغرُرَنَّك صَفوُ العيشِ  في الصغَرِ       بل صُنْ فؤادَك يصفُ العيشُ في الكِبَرِ

همٌّ  وغمٌّ  وضــيقُ   النفْسِ  يُهلِكُكمْ       دعِ  الكآبةَ   أسلِ   النفـسَ  عـن   كَـدَرِ

 

وأما قيس بن الملوح فقد كان مصاباً بالضغط النفسي المزمن بسبب الحب. وقد تكون تلك المشاكل النفسية المزمنة التي ذكرناها في أشعاره التي استعرضناها قد تراكمت عليه وأدت إلى إصابته بمرض القلب القاتل.

 

المراجع العلمية: 

1. Neurohumoral Features of Myocardial Stunning Due to Sudden Emotional Stress, NEJM352:539-548

 

2. Impact of Psychological Factors on the Pathogenesis of Cardiovascular Disease and Implications for Therapy (Circulation. 1999;99:2192-2217.)

 

3. Bruhn JG, Parades A, Adsett CA, Wolf S. Psychological predictors of sudden death in myocardial infarction. J Psychosom Res. 1974;18:187–191

 

4.  Engel G. A life setting conducive to illness: the giving-up-giving-up complex. Ann Intern Med. 1968;69:293–300.

 

5. Caroll BJ, Curtis GC, Davies BM, Mendels J, Sugarman AA. Urinary free cortisol excretion in depression. Psychol Med.

 

6. Kawachi I, Sparrow D, Vokonas PS, Weiss ST. Symptoms of anxiety and risk of coronary heart disease: the Normative Aging Study.Circulation. 1994;90:2225–2229.

 

7. Helmers KF, Krantz DS, Howell RH, Klein J, Bairey N, Rozanski A. Hostility and myocardial ischemia in coronary artery disease patients: evaluation by gender and ischemic index. Psychosom Medicine. 1993;55:29–36.

 

8. Seigler IC, Peterson BL, Barefoot JC, Williams RB. Hostility during late adolescence predicts coronary risk factors at mid-life. Am J Epidemiol.1992;136:146–154.
 

9. Williams RB, Barefoot JC, Califf RM, Haney TL, Saunders WB, Pryor DB, Hlatky MA, Siegler IC, Mark DB. Prognostic importance of social and economic resources among medically treated patients with angiographically documented coronary artery disease. JAMA. 1992;267:520–524.

 

10.Theorell T, Tsutsumi A, Hallqist J, Reuterwall C, Hogstedt C, Fredlund P, Emlund N, Johnson JV, and the SHEEP Study Group. Decision latitude, job strain, and myocardial infarction: a study of working men in Stockholm. Am J Public Health. 1998;88:382–388.

 

11. Kaprio J, Koskenvuo M, Rita H. Mortality after bereavement: a prospective study of 95,647 persons. Am J Public Health. 1987;77:283–287.

 

12. Meisel SR, Kutz I, Dayan KI, Pauzner H, Chetboun I, Arbel Y, David D. Effects of Iraqi missile war on incidence of acute myocardial infarction and sudden death in Israeli civilians. Lancet. 1991;338:660–661

bottom of page