الحـب العـذري
الحب في العصور القديمة:
لا نعرف من هو أول إنسان أنشد قصيدة حب، ولكننا نعرف أن آثار بلاد ما بين النهرين أظهرت أن أول قصيدة حب كتبت على ألواح في العصر السومري، حيث كانت تقرأ عروس الملك (سوهوسن) قصيدة الحب في حفلة الزفاف، وتكرر فيها الكلمات:
يا عريساً يحبه قلبي
ويا جميلاً ويا عسل النحل
ويا أسداً يحبه قلبي
ويا جميلاً ويا عسل النحل(1)
يعود تاريخ السومريين إلى 5000 سنة قبل ميلاد المسيح، وهم الذين اخترعوا الكتابة حوالي سنة 3000 قبل الميلاد. والشعر السومري لا وزن له ولا قافية، ولكنه يتميز بتكرار الألفاظ والجمل. وقصيدة الحب السومرية أعلاه، أثبتت أن السومريين اعتبروا القلب مركز الحب. والواقع أن السومريين، ثم البابليين بعدهم، جعلوا القلب مركز العقل والمشاعر العقلية، ولكنهم جعلوا الكبد مركز المشاعر الفطرية من شوق وحزن. ولقد أخذ العرب بعض تلك الأفكار من البابليين، وأشركوا القلب والكبد في مشاعر الحب. ومن ذلك الارتباط بالكبد جاءتنا في اللغة لفظة "كَبد" ومشتقاتها، مثل قول امرئ القيس:
فَبِتُّ أُكابِدُ لَيلَ التِّما مِ وَالقَلبُ مِن خَشيَةٍ مُقشَعِرْ
وقول عنترة:
وَلَم يَبقَ لي يا عَبلَ شَخصٌ مُعَرَّفٌ سِوى كَبِدٍ حَرّى تَذوبُ فَأَسقَمُ
وقول العباس بن الأحنف:
فواكَبِدي مِن باطِنِ الشَوقِ وَالهَوى لَقَد خِفتُ أَن أَبقَى لَقىً هالِكاً جِدّا
إذا قُلتُ إنَّ الحُبَّ قَد بانَ وَانجَلَى عَنِ القَلبِ حَنَّ القَلبُ وَازدادَ وَاشتَدّا
ويذكر بول غليونجي أن المصريين القدامى أيام الفراعنة، وصفوا الحنين والحزن والحب في قصائد "هي أبلغ ما تكون شاعرية". وذكر ما قيل عن مريض اسمه (سانتي خامويس) أنه "تدثر بثيابه واضطجع... فوضعت زوجته يدها تحت ثيابه وقالت: يا أخي ليس بك حمى وأعضاؤك مرنة، إنه حزن في قلبك". وسخر العشّاق والمحبون المصريون القدامى من الطب والأطباء آنذاك. ومما قالوه "إن قدوم المحبوبة أنجع من الدواء، وأجدى من الموسوعات الطبية". وقال أحدهم: "سأعتكف بالدار، وسوف يدخل الجيران للزيارة، ومعهم من أحبها، وسيُزري سحرُها بنطس (ذكاء) الأطباء لأنها هي التي تعرف دوائي"(2).
والظاهر أن أشعار الحب عند الأوربيين لم تتطور بنفس درجة تطور شعر الحب في الشرق مثل أشعار البابليين والمصريين القدامى. وذكر أحمد عبد الستار الجواري عن تاريخ الحب عند الأوربيين قوله "لقد وقع في يدي كتاب(3) في دراسة الحب عند الإفرنج، يتحدث فيه المؤلف عن نشأة الحب الرومانسي، فيستعرض تاريخ الحب في أوربا، ويعترف بأن الحب كعاطفة لم يوجد عند اليونان ولا تغنى به شعراؤهم... ومثال هذا كان عند الرومان، فقد كانت عواطفهم ... بدائية ليس فيها ما نسميه فن الحب"(4).
الحب عند العرب:
أما أجدادنا العرب الذين كانت أشعارهم في العصر الجاهلي، تُنقل بالحفظ لا بالتدوين، فإننا لا نعلم متى بدؤوا يصوغون الشعر عامة، وأشعار الحب خاصة. ولكن غِنى العربية بألفاظ الحب الكثيرة ومترادفاتها، دلالة على قدم التعبير عن تلك العواطف الإنسانية في اللغة العربية شعراً أو نثراً. فاللغة العربية حافلة بأسماء العلاقة بين المتحابين حتى بلغ بعضهم بها إلى الستين اسماً(5).
فالعِشْقُ في اللغة: فَرطُ الحبِّ. ورجلٌ عشِّيقٌ، أي كثير العِشْقِ. والتَعَشُّقُ: تكلُّفُ العِشقِ(6). وورد في لسان العرب: "سئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشْقِ: أَيّهما أَحمد؟ فقال: الحُب، لأن العِشْقَ فيه إِفراط، وسمي العاشِقُ عاشِقاً لأَنه يَذْبُلُ من شدة الهوى كما تَذْبُل العَشَقَةُ إذا قطعت، والعَشَقَةُ: شجرة تَخْضَرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ"(7).
وقيل استمد العشق معناه من اللصوق. فعشق به: لصق كما في القاموس المحيط. وحتى في اللهجة العامية في الخليج يقول سائق السيارة: "عشّقت كير Gear" السيارة (ناقل حركتها) أي أحكمت إلصاقه.
ورتب الثعالبي مراتب الحب في فقه اللغة كالتالي:
أول مراتب الحب: الهوى، ثم العَلاقة وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكَلَف وهو شدة الحب، ثم العِشْق وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، ثم الشَّعَف وهو إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك حرقة الهوى... ثم الشَّغَف وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، وقد قرأنا جميعاً: شغفها حبًّا وشعفها. ثم الجوى وهو الهوى الباطن، ثم التتيم وهو أن يستعبده الحب، ومنه سمي تَيم الله أي عبد الله، ومنه رجل متيّم، ثم التَبَل وهو أن يسقمه الهوى ومنه رجل متبول، ثم التدليه وهو ذَهاب العقل من الهوى ومنه رجل مدلّه، ثم الهُيوم وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه ومنه رجل هائم(8).
لذلك فإننا نتوقع أن تكون مشاعر الحب وأشعار الحب عند العرب قديمة، وإن لم نستطع إثبات ذلك بوثيقة مكتوبة، لاعتماد العرب على الحفظ بدلاً من التدوين. ولكن عاطفة الحب واضحة في الشعر الجاهلي الذي انتقل إلى الأجيال عبر الأفواه أولاً، ثم دون في العصر الإسلامي. والعصر الجاهلي الذي وصلتنا أشعاره قصير نسبياً، لا يزيد على 200 إلى 250 سنة قبل الإسلام. ولكن أشعار الحب في العصر الجاهلي لم تبلغ رقّة ونقاءً وطهراً كما بلغ الشعر العذري في بداية العصر الإسلامي. فقد كان الشاعر الجاهلي يتغزل بالمحبوبة ويطريها، لكن يندر أن يجعلها الهدف الوحيد لقصيدته. فقصيدة الحب "الجاهلية" ينقصها الاستمرار والانسياب. فلا يكاد الشاعر يذكر شوقه للمحبوبة وتكبده المشاق لزيارتها حتى ينتقل من أبيات الحب إلى وصف ناقته أو حصانه، أو وصف البراري والصحاري التي يقطعها كي يصل إلى ديارها أو يتطرق إلى موضوع آخر كالقنْص والخمر والفخر والهجاء. ولو تمعنّا في قصائد امرئ القيس بن حُجر، الذي اشتهر بغزله، نجد أنه بدأ القصيدة الرقيقة التالية قائلاً:
خَليلَيَّ مُرّا بي عَلى أُمِّ جُندَبِ نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ1
أَلَم تَرَياني كُلَّما جِئتُ طارِقاً وَجَدتُ بِها طيباً وَإِن لَم تَطَيَّبِ
وبعد أبيات قليلة ترك الحبيبة وانتقل إلى وصف فرسه بإسهاب قائلاً:
وَقَد أَغتَدي قبل الشروع بسابحٍ أقبَّ كيعفور الفلاةِ مُجَنَّبِ2
ومع ذلك فإني لا أشك في أن أشعار الحب في العصر الجاهلي كانت الأساس الذي نما وتطور منه شعر الحب العذري في العصر الإسلامي. فالمحبون العذريون الذين ظهروا في العصر الإسلامي إنما كانوا امتداداً للمتيمين في العصر الجاهلي. وقد قلد الشعراء العذريون أجدادهم الجاهليين في كثير من التعابير والتشابيه والأوصاف الغزلية. ومن الأمثلة التي توضح ذلك ما يلي:
اعتبار المحبوبة شمساً:
لقد اعتبر الشعراء العرب قبل الإسلام بياض وجه المرأة من الصفات المحبوبة، فشبهوا وجه الفتاة المحبوبة بالشمس، ومن أمثلة ذلك قول الطفيل الغنوي (توفي 13 ق. هـ.):
عَروبٌ كَأَنَّ الشَمسَ تَحتَ قِناعِها إذا ابتَسَمَت أَو سافِراً لَم تَبَسَّمِ3
وقول طرفة بن العبد (86-60 ق. هـ.):
وَوَجهٌ كَأَنَّ الشَمسَ حَلَّت رِداءَها عَلَيهِ نَقِيُّ اللَونِ لَم يَتَخَدَّدِ 4
أما العذريون فخير من يمثلهم صاحبنا المجنون الذي قال:
فَقالوا أَينَ مَسكَنُها وَمَن هِي فَقُلتُ الشَمسُ مَسكَنُها السَماءُ
فَقالوا مَن رَأَيتَ أَحَبَّ شَمساً فَقُلتُ عَلَيَّ قَد نَزَلَ القَضاءُ
وقال:
أَقولُ لأصحابي هِيَ الشَمسُ ضَوءُها قَريبٌ وَلَكِن في تَناوُلِها بُعدُ
تشبيه المحبوبة بالظبي والغزال:
فمن الشبه بين المرأة والغزال في شعر الجاهليين جمال العنق كما قال امرؤ القيس (130-80 ق. هـ.):
وجيدٍ كجيد الرِّئمِ ليس بفاحش إذا هي نصَّتهُ ولا بمُعَطَّلِ5
وقال المجنون:
فَإلاّ تَكُن لَيلى غَزالاً بِعَينِهِ فَقَد أَشبَهَتها ظَبيَةٌ وَغَزالُ
:التطير بالغراب
التطير بالغراب واعتباره شؤماً ومفرّقاً للأحبة متأصل في آداب العرب منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، فقد قال الشنفرى (توفي 70 ق. هـ.):
فَقال غُرابٌ لا اغتِرابٌ مِنَ النَّوى وبِالبانِ بَينٌ مِن حَبيبٍ تُعاشِرُه
وقال عنترة (توفي 22 ق. هـ.):
وَعاداني غُرابُ البَينِ حَتّى كَأَنّي قَد قَتَلتُ لَهُ قَتيلا
ومثلهم فعل المحبون العذريون مثل المجنون حيث قال:
أَلا يا غُرابَ البَينِ ما لَكَ كُلَّما تَذَكَّرتُ لَيلى طِرتَ لي عَن شِمالِيا
نشأة الحب العذري:
لم ينشأ الحب العذري عند العرب متأثراً بثقافات أجنبية. وقد أخطأ من حاول أن يَزُجَّ آراء وأفكار الفلاسفة اليونانيين في نشأة الحب العذري عند العرب. ففلاسفة اليونان أدخلوا الحب في أساطير وخرافات آلهتهم، ولهم آراء شاذة في الحب. فأفلاطون قال إن هناك حبًّا سماويًّا وحبًّا أرضيًّا، فالسماوي يتعلق بالروح لا الجسد. ولا يحفل باللذة، بل بالنفس والعقل. ولكن ليس موضوعه الأنثى بل الذكر. فاعتبر أفلاطون الحب الحقيقي "حب الذكور للذكور" أما الحب بين الرجل والمرأة فهي لحاجة جسمية مثل الحاجة إلى الطعام والشراب(4).
وظهر الحب العذري عند العرب أولاً في البادية في منتصف القرن الأول للهجرة. ولا يمكن أن تكون البادية المعزولة عن المدن قد تأثرت بالفلسفة اليونانية، بل من المستحيل أن تتأثر البادية بالحياة الفكرية والفلسفية، وهي في عزلتها الصحراوية عن الحواضر، وما يجري في العواصم والمدن المتحضرة من نشاط علمي. والواقع أن العرب لم يعرفوا فلسفة اليونان وأدبهم إلا في العصر العباسي، أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري، حيث قامت حركة الترجمة في ظل الخليفة المأمون وتشجيعه. أما الحب العذري، فإنه عرف في الأدب العربي، واشتهر قبل ذلك بقرنين أو يزيد.
وقد أجمع المؤرخون للأدب العربي على أن الحب العذري نشأ في البادية لا في المدن والحواضر، حيثُ الانشغالُ بالحكم والسياسة في تأييد الحكم الأموي في الشام، والمعارضة والتربص به والثورة عليه في العراق. "أما في الحجاز فقد اقتضت السياسة الأموية أن تقصيه عن السياسة، وأتاحت ... حياة اللهو والعبث بما أغدقت عليهم من طائل الأموال، وما شحنت به بيئاتهم من وسائل اللهو"(4).
أما مكة والمدينة مستقر الصفوة من المهاجرين والأنصار وأبناء السابقين إلى الإسلام، فقد ذكر حسن درويش أنه ضُرب حولهم سور من العزلة السياسية، وحيل بين أبنائها وبين الانتشار في الأرض والمشاركة في الأحداث، لأن الأمويين كانوا يشكّون في ولائهم... بحسبانهم خطراً يهدد سلطانهم. فنجم عن العزلة ضرب من اليأس جعل أبناء المهاجرين والأنصار .. ينصرف بعضهم إلى اللهو والغناء والغزل اللاهي، وانصرف آخرون إلى الزهادة والتقى والعفاف وإلى الغزل الروحي العفيف(9).
وقال أحمد الجواري: كان في الحجاز فريقان، أهل المدن من أبناء الصحابة الذين جهد بنو أمية أن يصرفوهم عن التفكير بالسياسة والتطلع إلى الحكم؛ فأغدقوا عليهم من الأموال ما شاؤوا وشحنوا مكة والمدينة بطائفة كبيرة من المغنين والمخنثين والقيان ودور اللهو والشراب. فانصرف القوم أو الكثير منهم إلى اللهو، حيث تيسرت لهم أسبابه من اليأس والفراغ. والفريق الآخر أهل البادية الذين اجتمع لهم من اليأس والفقر، فانصرفوا إلى التفكير في المثل الأعلى، ونشأت فيهم نزعة شبيهة بالتصوف وهي الغزل العفيف(4).
لقد وصف الدكتور شوقي ضيف الحب العذري بأنه: "حب حقيقي عاشه العرب في عصورهم الإسلامية الأولى، حب ليس فيه إثم ولا جناح ولا فسوق ولا حرج ولا خيانة ولا عار ولا خطيئة ولا ريبة، إنما فيه الوفاء والصفاء والعفاف والطهر والنقاء. وفيه كان يحتفظ المحبون بكرامتهم مهما ألح عليهم الحب، وتحتفظ الفتاة بجلالها ووقارها مع رقة العواطف ورهافة المشاعر"(10).
والذي دعانا إلى الحديث عن الحب العذري هو حب قيس بن الملوح لليلى العامرية، لأنه مثال مشهور من أمثلة الحب العذري. وأشعار مجنون ليلى من أرقى أنواع الغزل العذري الذي انتشر في العصر الأموي. فالغزل العذري: غزل طاهر نقي ينسب إلى قبيلة بني عذرة، إحدى قبائل قضاعة، التي كانت تنزل منطقة وادي القرى شمالي الحجاز. وتميز فتيانها بالشعر العفيف الذي لا تدنسه لذات حسية في وصف المحبوبة. ثم انتشر ذلك الشعر وامتد إلى قبائل أخرى مثل بني عامر، قبيلة المجنون. وهناك شبه كبير بين أشعار أولئك العذريين القدامى مثل مجنون ليلى، وأشعار الصوفيين أمثال ابن الفارض من حيث الأسلوبُ والتسامي والطهر والرغبة في التضحية والفناء من أجل المحبوب، وإن كان الاختلاف الرئيسي في المحبوب. وإني أعتقد أن الحب الصوفي تقمص الشعر العذري، وحافظ على أسلوبه بما في ذلك وصف الحبيب والتغزل فيه، ولكن رمز الصوفيون بالحبيب إلى الله سبحانه، بدلاً من الإنسان كما هو في أشعار المحبين الآخرين. ولا ينكر الصوفيون ذلك بل صرح الإمام البوصيريوهو من شعراء الصوفية بأن حبه "عذريُّ" حيث قال:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ
وذكر أحمد عبد الستار الجواري(4): أن بني عذرة اشتهروا بالحب الصادق العفيف الذي يملك الروح وينتظم النفس، ويسمو فوق شهوات الجسد. ويشيع هذا الحب فيهم ويعرف بهم حتى يقال للعاشق الثابت على حبه المخلص في وده المنزه حبه عن شهوة الحس ولذة الجسد إنه "حب عذري". وظل ذلك في الأدب العربي عنوان العفة في الحب والإخلاص له والفناء فيه، حتى لقد عبر به الصوفية في حبهم للذات الإلهية دلالة على نقاء الحب وصفائه وسموه عن التعلق بالمادة.
واشتهر الحب العذري بالعفة وعدم احتفاله باللذة، أو تعلقه بالجسد، وامتياز المحب العذري بأنه مثالي لا غاية له في المحبوب ولا غرض يسعى إليه. فالحب العذري صورة مصفّاة من صور الحب تسمو على لذة الحس وتتعالى عن شهوة الجسد.
ومن خصائص الحب العذري أنه توحيد للمحبوب الواحد لا إشراك فيه. فهو حب صادق يملأ على المحب قلبه ونفسه، ويمتلك النفس كلها، فلا تلتفت إلا إلى المحبوب الواحد المشغولة به. والحب عاطفة إنسانية جبارة تصرف المحب إلى محبوبه فقط بصورة دائمة، وتشغله به عما سواه من الناس.
ولم يقتصر الحب العذري على بني عذرة وحدهم، فصاحبنا المجنون قيس بن الملوح عامري، وقيس بن ذريح صاحب لبنى من كنانة، وكثيّر بن عبد الرحمن صاحب عزة خزاعي، وتوبة بن الحميّر صاحب ليلى الأخيلية خفاجي.
الحب العذري والجنس:
لقد أصر بعض زملائي المقتنعين برأي "فرويد" على أن الجنس منبع الحب. فهم يرون أنه لا يمكن أن يعشق رجل امرأة إلا والرغبة الجنسية أساس عشقه. فلهؤلاء الذين لم يقتنعوا بأن الحب العذري حب نقي لا يحتفل بالجسد، وأصروا على أنه مبني على الرغبة الجنسية أورد بعض الوقائع التاريخية للحب العذري، التي تناقض أفكارهم تلك. فالحب العذري غالباً ما ينشأ في سن مبكرة قبل أن تستفيق في النفس الدوافع الجنسية. وبداية الحب بين المجنون وليلى وهما صغيران خير مثال على ذلك حيث قال:
تعلقتُ ليلى وهي ذاتُ تمائــمٍ ولم يبدُ للأترابِ من ثديها حجـمُ
صغيرين نرعى البَهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهـمُ6
وقال:
عشقتك يا ليلى وكنتِ صبيةً وكنتُ ابن سبعٍ ما بلغت ثمانيا
وعشق جميل بن معمر بثينة وعشقته وهو غلام، وقد قال:
علقت الهوى منها وليداً فلم يزلْ إلى اليوم ينمي حبُها ويزيدُ
وأفنيتُ عمري بانتظاري وعدَها وأبليت فيه الدهرَ وهو جديد
وتدحض قصة الحب العذري لقيس بن ذريح ولبنى المبدأ القائل إنّ الرغبة الجنسية أساس الحب العذري. فقيس بن ذريح تزوج لبنى ولم يفتر حبه بعد الزواج منها، وبقي على شدة حبه وهُيامه بها. بل شغله حبه بها، وهي معه تحت سقف واحد، عن كل شيء آخر في الحياة، حتى ضاق بأمره والداه وأرغماه على طلاقها بعذر أنها لم تنجب له طفلاً. واستمر في هيامه بها بعد الطلاق.
ومحب شهير آخر هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، من وجوه الفقهاء وكبار رواة الحديث وهو أحد سبعة من أهل المدينة كانوا متقدمين في الفقه والنسك والعبادة. وكان عبد الله بن عباس يقدمه ويؤثره. وكان عمر بن عبد العزبز يقول: "ليت لي مجلساً من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة".
قيل لعبيد الله: " أتقول الشعر في فضلك ونسكك" فأجاب: "إن المصدور إذا نفث برأ".
ويقول الرواة إنه طلق امرأته عثمة ثم ندم على طلاقها، وكان يقول فيها الأشعار، ومن ذلك:
أَأَترُكُ إِتيانَ الحَبيبِ تَأَثُّماً أَلا إِنَّ هِجرانَ الحَبيبِ هُوَ الإِثمُ
ومن غرر شعره التي يطرب لها الطبيب وبالأخص طبيب قلب مثلي أو جرّاح قلب، الأبيات التالية التي يصف فيها عملية جراحية للقلب بقصد الزراعة، لا لزراعة قلب ولكن لزراعة حب في القلب:
تغلغل حبُّ عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسيرُ
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
شققت القلب ثم ذررت فيه هواك فليمَ فالتأم الفطورُ
أكادُ إذا ذكرت العهد منها أطيرُ لو ان إنساناً يطيرُ
غنيّ النفس أن أزداد حبًّا ولكني إلى صلة فقيرُ
وأنفذ جارحاك سواد قلبي فأنت عليّ ما عشنا أميرُ7
ولما قتل الحب ذلك الفقيه العابد الناسك، وقضى عليه حب عثمة، قال فيه ابن عباس: "هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود" أي لا قصاص ولا دية.
وعابد آخر وهو عبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي الملقب بالقس، هو فقيه قارئ ناسك من أهل مكة، عرف بالورع واشتهر بالعبادة والنسك. شغف بسلامة المغنية المعروفة في العصر الأموي وهام بها، واشتهر أمرها حتى عرفت بلقبه، فقيل لها: "سلامة القس". ولكنه ترفع في حبه عن الجنس.
ويروى أنه خلا بها ذات مرة فأخذا بأطراف الحديث فقالت له: "أنا أحبك" فقال لها: "وأنا والله أحبك" قالت: "وأحب أن أضع فمي على فمك" قال: "وأنا والله أحب ذلك" قالت: "فما يمنعك؟ فوالله إن الموضع لخال" قال: "إني سمعت الله عز وجل يقول: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" وأنا أكره أن تكون خلة بيني وبينك تؤول إلى عداوة". ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النسك(11).
ومما قاله القس:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر؟ وهل أنت عن سلامة اليوم مقصرُ؟
وإني إذا ما الموت زال بنفسها يزال بنفسي قبلـها حين تقبرُ
وقد لا يكون للحب منطق أو تعليل، فقد قال الجاحظ: "إن العاشق كثيراً ما يعشق غير النهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إذا سئل عن حجته في ذلك لم تقم له حجة"(12).
وقال ابن حزم: "لو كان علة الحب حسنَ الصورة الجسدية، لوجب ألا يُستحسن الأنقصُ من الصورة"، وقال: "نحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه"(13).
السمات المشتركة عند العذريين:
يشترك المحبون العذريون في أغلب أعراض العشق التي ذكرتها بإسهاب في فصل (أعراض العشق)، وأهم الصفات والسمات التي يشتركون فيها ما يلي:
التوحيد في المحب والإخلاص له:
قال المجنون:
محا حبها حب الأولى كنَّ قبلها وحلت مكاناً لم يكن حُلَّ من قبلُ
فحبي لها حبٌّ تمكّ!ن في الحشا فما أن أرى حبًّا يكون له مثلُ
وقال:
سَرَت في سَوادِ القَلبِ حَتّى إذا انتَهى بِها السيرُ وَارتادَت حِمى القَلبِ حَلَّتِ
وواللَهِ ما في القَلبِ شَيءٌ مِنَ الهَوى لأُخرى سِواها أَكثَرَت أَم أَقَلَّتِ
العفّة:
قال المجنون:
أحبك يا ليلى على غير ريبة وما خير حبٍّ لا تعِفُّ ضمائرهْ
وقال كثيّر عزة:
أَتى دونَ ما تَخشَونَ مِن بَثِّ سِرِّكُم أَخو ثِقَةٍ سَهلُ الخَلائِقِ أَروَعُ
ضَنينٌ بِبَذلِ السِرِّ سَمحٌ بِغَيرِهِ أَخو ثِقَةٍ عَفُّ الوِصالِ سَمَيدَعُ 8
وقال جميل بثينة:
لا والذي تسجد الجباه لهُ ما لي بما دونَ ثوبها خبرُ
ولا "بفيها" ولا هَمَمتُ بهِ ما كانَ إلا الحديثُ والنظرُ
الشكوى من بخل المحبوبة:
قال المجنون:
عَفا اللَهُ عَن لَيلى وَإِن سَفَكَت دَمي فَإِنّي وإِن لَم تَحزُني غَيرُ عاتِبِ
عَلَيها وَلا مُبدٍ لِلَيلى شِــكايَةً وَقَد يَشتَكي المُشكى إِلى كُلَّ صاحِبِ
يَقولونَ تُب عَن ذِكرِ لَيلى وَحُبِّها وَما خَلَدي عَــن حُبِّ لَيلى بِتائِبِ9
وقال كثيّر عزة:
وَإِن تَبخَلي يا ليلَ عَنّي فَإِنَّني تُوَكِّلُني نَفسي بِكُلِّ بَخيلِ
التضجّر من الوشاة:
قال المجنون:
أَمسَت وُشاتُكَ قَد دَبَّت عَقارِبُها وَقَد رَمَوكَ بِعَينِ الغِشِّ وَابتَدَروا
تُريكَ أَعيُنُهُم ما في صُدورِهِمُ إِنَّ الصُدورَ يُؤَدّي غَيبَها النَّظَرُ
الغراب والطيرة والتشاؤم:
وهو معتقد قديم أشار إليه الجاهليون كما ذكرت سابقاً. وقد ورد الغراب في شعر العذريين وأقرانهم من المحبين، فصبّوا عليه جام غضبِهم، وعزوا إليه ما هم فيه من سوء الحال وفراق الأحبة.
قال قيس بن ذريح:
لَقَد نادى الغُرابُ بِبَينِ لُبنى فَطارَ القَلبُ مِن حَذَرِ الغُرابِ
وقال أيضاً:
أَلا يا غُرابَ البَينِ هَل أَنتَ مُخبِري بِخَيرٍ كَما خَبَّرتَ بِالنَّأيِ وَالشَرِّ
وقال:
وَطارَ غُرابُ البَينِ وَانشَقَّتِ العَصا بِبَينٍ كَما شَقَّ الأَديمَ الصَوانِعُ10
وقال عروة بن حزام:
أَلا يا غُرابَي دِمْنَةِ الدَّارِ بَيِّنا أَبِالصَّرْمِ من عفراءَ تَنتحبانِ11
وقال عروة بن أذينة صاحب عثمة:
غُرابٌ وَظَبيٌ أَعضَبُ القَرنِ نادِباً بِبَينٍ وَصُردانُ العَشِيِّ تَصيحُ12
وقال جميل بثينة:
أَلا يا غُرابَ البَينِ فيمَ تَصيحُ فَصَوتُكَ مَشنِيٌّ إِلَيَّ قَبيحُ13
أما ذو الرمّة صاحب ميّ، فقد وضّح الأمر أكثر حيث قال:
رَأَيتُ غُراباً ساقِطاً فَوقَ قَضبَةٍ مِنَ القُضبِ لَم يَنبُت لَها وَرَقٌ خُضرُ 14
فَقُلتُ غُرابٌ لاغتِرابٍ وَقَضبَةٍ لِقُضبِ النَوى تِلكَ العِيافَةُ وَالزَجرُ15
الحَمام وفرط البكاء:
أفرط العذريون في البكاء وجعلوا الحَمام مثيراً للحزن والبكاء. فهديله يثير الشجن وهتافه يجري الدموع. فالغراب رمز الشؤم، والحمام رمز الحزن والإشفاق، وذلك لرقة فيه بادية، وصورة وديعة وغناء أخّاذ. فاتخذوا منه رمزاً للحب الصادق والوفاء النادر والحزن البليغ، فشاركوه البكاء وشاطروه الحزن.
قال المجنون:
أَإِن سَجَعَت في بَطنِ وادٍ حَمامَةٌ تُجاوِبُ أُخرى دَمعُ عَينِكَ دافِقُ16
كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بُكاءَ حَمـامَةٍ بِلَيلٍ وَلَم يَحزُنكَ إِلفٌ مَفارِقُ
ولَم تَرَ مَفجوعاً بِشَيءٍ يُحِبُّهُ سِواكَ وَلَم يَعشَق كَعِشقِكَ عاشِقُ
وكون صوت الحمام يهيج حزن المحب والعاشق مألوف في أشعار المحبين، فقد قال حميد بن ثور الهلالي بيتاً نسب أيضاً إلى عنترة:
إِذا نادى قَرينَتَهُ حَمامٌ جَرى لِصَبابَتي دَمعٌ سفوحُ
وقد قال عنترة:
وَلَقَد ناحَ في الغُصونِ حَمامٌ فَشَجاني حَنينُهُ وَالنَحيبُ
اليأس:
قال المجنون:
إِلَيكَ عَنِّيَ هــــائِمٌ وَصِبُ أَما تَرى الجِسمَ قَد أَودى بِهِ العَطَبُ؟17
لِلَّهِ قَلبِيَ ماذا قَـــد أُتيحَ لَهُ حَرُّ الصَبابَةِ وَالأَوجاعُ وَالوَصَبُ؟
ضاقَت عَلَيَّ بِلادُ اللَهِ ما رَحُبَت يا لَلرِجالِ فَهَل في الأَرضِ مُضطَرَبُ؟
البَينُ يُؤلِمُني وَالشَوقُ يَجرَحُني وَالدارُ نازِحَةٌ وَالشَمـلُ مُنشَعِبُ18
كَيفَ السَبيلُ إِلى لَيلى وَقَد حُجِبَت؟ عَهدي بِها زَمَناً ما دونَها حُجُبُ
وتمنى المجنون أمنيات تجسّم اليأس والإحباط:
أَلا لَيتَنا كُنّا غَزالَينِ نَـــرتَعي رِياضاً مِنَ الحَوذانِ في بَلَدٍ قَفرِ19
أَلا لَيتَنا كُنّا حَمـــامَي مَفازَةٍ نَطيرُ وَنَأوي بِالعَشِيِّ إِلى وَكرِ
أَلا لَيتَنا حوتانِ في البَحرِ نَرتَمي إِذا نَحنُ أَمسَينا نُلَجِّجُ في البَحرِ
وَيا لَيتَنا نَحيا جَميـــعاً وَليتَنا نَصيرُ إِذا مِتنا ضَجيعَينِ في قَبرِ
ضَجيعَينِ في قَبرٍ عَنِ الناسِ مُعزَلٍ وَنُقرَنُ يَومَ البَعثِ وَالحَشرِ وَالنَشرِ
:شرح المفردات
لُبانات: جمع لُبانة وهي الحاجة.
أقب: ضامر البطن. اليعفور: الظبي. فرس مُجنّب: بعيد ما بين الرجلين وهو مدح.
العَروب: المرأة الضاحكة والمتحببة إلى زوجها.
يتخدد: يهزل.
الريم: الظبي الأبيض الخالص البياض. نصّت: رفعت. المعطل: الخالي من القلائد والحلي.
البهم: جمع بهمة، وهي صغار الغنم.
-
سواد القلب: حبّتُه وقيل دم.
-
السميدع: السيد الكريم الشجاع الجميل الجسيم.
-
الخلَد: البال أو القلب.
-
الأديم: الجلد. الصوانع: جمع الصنّاعة وهي المرأة التي تصنع برقة بيدها.
-
دمنة الدر: البقعة التي سورها أهلها وبالت وبعرت فيها مواشيهم. الصرم: القطع، فصرم الحبل: قطعه.
-
أعضب: مكسور القرن. نادباً: داعياً. صردان: جمع صرد وهو طائر فوق العصفور، يصطاد العصافير له منقار ضخم.
-
مشني: به شين أي قبيح.
-
القضب: جمع قضبة وهي الشجرة التي سبطت أغصانها فامتدت
-
قضب النوى: قطعه، أي الوصال بدلاً من النوى. العيافة: زجر الطير. الزجر: العيافة وهو ضرب من التكهن
-
سجعت الحمامة: هدلت ورددت صوتها على وجه واحد.
-
وصب: مريض. العطب: الهلاك.
-
منشعب: متفرق.
-
الحوذان: نبات له أزهار صفراء
-
المراجع:
Kramer S N: History begins at Sumer: Univ. of Pennsylvania press, 3rd edition, 1981, p.246
-
بول غليونجي: قطوف من تاريخ الطب، دار المعارف 1986.
-
Andre Maurois: Sept Visages de l’Amour. (Jeune Parque)
-
أحمد عبد الستار الجواري: الحب العذري: نشأته وتطوره ، دار الكتاب العربي بمصر، 1948م.
-
ابن القيم الجوزية: روضة المحبين
-
الجوهري: الصحاح في اللغة
-
ابن منظور: لسان العرب – دار المعارف - القاهرة.
-
الثعالبي: فقه اللغة
-
العربي حسن درويش: قضية الحب العذري في شعر بني أمية. مكتبة النهضة المصرية 1990
-
شوقي ضيف: الحب العذري عند العرب-الدار المصرية اللبنانية 1999م
-
الأصفهاني: كتاب الأغاني – دار صادر، 2002م.
-
الجاحظ: رسالة في "القيان".
-
ابن حزم: طوق الحمامة