1- تعريف القلب:
القلب الذي نعرفه اليوم بأنه عضو في الجهة اليسرى من الصدر ووظيفته ضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم هو معنى جديد مبني على علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء التي ارتكز عليها علم الطب الحديث. أما الأطباء القدامى وبالأخص الذين عاشوا في الفترة التي نطلق عليها اسم العصر الجاهلي من التاريخ العربي فإنهم كانوا يعتقدون أن القلب منبع الروح وموطن العقل.
وكان أرسطو يجعل القلب موضع القوى النفسية وتأثر بذلك ابن سينا أما جالينوس الطبيب فقد جعلها في الرأس.
2-تطور اللغة العربية:
قبل أن نستعرض كلمة "القلب" ومعانيها ومرادفاتها المختلفة لا بد أن نتحدث قليلاً عن تطور لغتنا وكيف نبعت المرادفات التي سأتناولها فيما بعد.
الغرض من اللغة هو إيضاح ما في نفس الإنسان من أفكار وحيث إن الأفكار تتجدد وتتطور حسب تطور الإنسان واكتشافاته وأسلوب حياته فكذلك اللغة تتطور وتتغير معاني بعض كلماتها وتتعدد مفرداتها. وكلما وجدت أغراض جديدة خُلقت ألفاظ جديدة. وقد تنقرض بعض الكلمات وبعــض المعاني لتغير الأحوال. واللغة العربية وشقيقاتها اللغات السامية الأخرى نبعت من أصل واحد ثم تفرعت وتشعبت ولكن قد تلتقي في جذور بعض الكلمات. كما أن العرب كانت قبائل متعددة لها لغات عربية أخرى انقرضت من قـديم الزمــن،فلم يبق الآن مثلاً من يتحدث باللغة الحميرية إلا إخواننا في بلاد ..المهرة والشعب الاريتري الشقيق. استعملت القبائل العربية المختلفة ألفاظا عربية مختلفة أورثتنا ثروة هائلة من المترادفات اللغوية. وقد تضاف معان جديدة من الألفاظ بطرق المجاز، فيصبح المجاز فيما بعد وضعاً جديداً عالقاً باللفظ لا ينفصل عنه وقد يصبـح اللفظ المجاز من مترادفات الكلمة. ولا شك أننا اليوم نجد صعوبة كبيرة في فهم معاني بعض الكلمات القديمة التي وردت في الشعر الجاهلي، وإن فهمنا معنى بعضها فإنه يتعذر استعمالها في هذا العصر، مثل الكلمات التي وردت في عجز البيت التالي لامرئ القيس بن حجر:
فلما أجزنا ساحة الحيِّ وانتحتْ بنا بطن (خبْت ذي حقافٍ عقنقلِ)
فالخبت أرض مطمئنة، والحقاف الرمال المتعرجة، والعقنقل المنعقد الداخل، يقصد الرمل المتلبد المنعقد.
فلا خبت ولا حقاف ولا عقنقل من الكلمات التي يسهل إستعمالها كما أننا قد لا نأسف على انقراضها لأنها لا تتلاءم مع ظروفنا وحياتنا في هذا العصر.
3-القلب في اللغة :
ففي اللغة قلب الشيء وسطه ولبه وخالصه ومحضه، وفي الحديـث" إن لكل شيءٍ قلباً وقلب القرآن يس" وقلب النخلة جمارها وهي شطبة بيضاء في وسطها عند أعلاها إذا تلفت ماتت النخلة.
وكلمة القلب مشتقة من قَلَبَ أي حول الشيء عن وجهه، فهو منقلب ومتقلب. وسمي القلب قلبا لتقلبه من ظرف إلى آخر بين سعادة وحزن وإيجاب وسلب، ولذلك قال النبي (ص): "سبحان مقلب القلوب". وقال تعالى: "تتقلب فيه القلوب والأبصار". وقال الشاعر:
وما سُمِّيَ القلبُ إلاّ من تقلُبِهِ والرأيُ يَصرفُ للإنسان أطوارا (1)
وقال بشار بن برد:
وما سميَ الإنسان إلا لنسيِهِ ولا القلـب إلا أنه يتقلبُ
أما العباس ابن الاحنف فقال في فوز :
فما دونها في الناس للقلب مطلبٌ ولا خلفها في الناس للقلب مذهبُ
وهان عليها ما ألاقي فربمـا يكون التلاقي والقلوب تَقلّـــبُ
وبما أن القلب عضوٌ والعقل وظيفةٌ فلقد استعمل العرب القدامى كلمة العقل بطرق المجاز للدلالة على القلب لأن العرب وغيرهم من الأمم في العصور القديمة كانت تعتقد أن القلب مركز العقل (وسأفصل ذلك فيما بعد) ثم التصقت كلمة العقل كإحدى مرادفات كلمة القلب، ولذلك انعدمالتمييز بين العقل والقلب في لغة العرب. يقول الشاعر الجاهلي أوس بن حجر:
صَحا قَلْبه عن سُكرهِ فتأمَّلا وكان بذكرى أمِّ عْمرو مُوَكلا
وقصد أوس هنا بكلمة قلبه عقله.
4-القلب في القرآن:
كان العرب يعتقدون أن القلب مقر العقل أو هو العقل بعينه كما في كتب اللغة والقرآن الذي حفظ للعرب لغتهم ودينهم افضل مرجع وحجة للدلالة على إستعمال العرب لمصطلحاتهم اللغوية أيام نزول القرآن الكريم، فالقرآن نزل بلغة العرب المتداولة والمعروفة للنبي (ص) وأصحابه ومن عاش من حوله من العرب. والحكمة من استعمال الكلمات والمطلحات العربية حسب معانيها المعروفة آنذاك للعرب هي تسهيل فهمها، حيث إن اللغة العربية كانت وسيلة نشر الرسالة السماوية بين العرب، فبتلك اللغة نزل القرآن، وبتلك اللغة خاطب الرسول (ص) العرب. ولذلك ليس هناك تناقض بين القرآن والطب في المقصود بقوله تعالى "أم لهم قلوبٌ يفقهون بها". لأن كلمة قلوب آنذاك تعني عقول. وإذا حدد الطب الآن أن مركز العقل هو الدماغ وليس القلب فهذا تطور جديد لم يكن معروفا آنذاك للعرب. وكذلك ورد نفس المعنى في قوله تعالى "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" أي عقل، بغض النظر عن مكان مركز العقل في الجسم، لأن القرآن لم ينزل ليعلم الناس علم التشريح ومواقع الأعضاء في الجسم وإنما أنزل الله على رسوله ليعملهم أمور دينهم. ومثل ذلك قال ابن خلدون في مقدمته عن طب العرب أيام الرسول (ص):
"إنه صلى اللّه عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب"(2).
5-القلب والفؤاد:
في الواقع أن العرب القدامى لم يفرقوا بين القلب والعقل والفؤاد، وكثيرا ما استعملت هذه الألفاظ الثلاثة لتؤدي معنى واحداً، ولم تفرق القواميس العربية بين القلب والفؤاد، فقد قيل أحيانا أن الفؤاد وسط القلب، وقيل إن القلب وسط الفؤاد، وقيل أن الفؤاد غشاء القلب ولكن الواضح أنه لا فرق في اللغة بين معنى الفؤاد ومعنى القلب. وحيث إن كلمة الفؤاد مشتقة من فأدَ أي شوى، ومعنى التفؤد التوقد، فسمي القلب فؤاداً لتوقده ولذلك قد يظن الكثيرون أن كلمة فؤاد أنسب لأحاديث الحب وأشعار الغرام وان كلمة الفؤاد أرق وألين من كلمة القلب ولكني لم أجد في الشعر العربي ما يؤيد ذلك بل وجدت أن استعمالها لا يختلف عن استعمال كلمة القلب أبدا. فالشاعر الشنفرى المعروف بالقوة والخشونة والفتك وسرعة العدو يقول لما رَوعت قلبه حمامة(3):
ونائحةٍ أوحيتُ في الصبحِ سَمعَها فريعَ فؤادي واشمأزَّ وأنكــرا
فخفّضت جأشي ثم قلتُ حمامـةٌ دَعت ساقَ حر في حمامٍ تنفّرا
اما النابغة الذبياني الأرقُ من الشنفرى فيقول لما ريع قلبه بسبب امرأة:
رأيت نُعماً وأصحابي على عجـل والعيس للبين قد شدت بأكوارِ
فريعَ قلبيَ وكانت نظرة عَرَضَـت حيناً وتوفيقُ أقدارٍ لأقــدارِ
ويقول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
ومن يوفِ لا يُذممْ ومن يُفض قلبُهُ إلى مُطمئنّ البرِّ لا يتجَمْجَــمِ
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فـؤادُه فلم يبقَ إلاَّ صورةُ اللحمِ والدمِ
فاستعمل زهير القلب والفؤاد في نفس القصيدة ليؤديا نفس المعنى.
وكذلك قال امرؤ القيس لفاطمته في المعلقة الشهيرة :
أغرّكِ منــي أن حُبكِ قاتـــلي وأنك مهما تأمري القلبَ يفعل
(وأنكِ قسّمتِ الفؤادَ فنصفـه قتيلٌ ونصفٌ في الحديد مُكبل) (4)
وما ذرَفت عيناك إلاّ لتضـربي بسهميكِ في أعشار قلبٍ مُقّتلِ
تسلّتْ عماياتُ الرجال عن الصبا وليس فؤادي عن هواكِ بمُنسْلِ
فقدا تنقل امرؤ القيس بين القلب والفؤاد في المعلقة لا لسبب معين إلاّ لتجنب تكرار نفس اللفظ.
وهكذا لا نجد هناك فرقاً في استعمال كلمتي القلب والفؤاد في أشعار أربعة من مشاهير الشعراء في العصر الجاهلي. وأكد ذلك في العصر الإسلامي عمر بن أبي ربيعة حيث قال:
وما سُمي القلبُ إلا من تقلُّبه ولا الفؤادُ فؤاداً غير أن عقلا
(يتبع)
المراجع:
(1) لسان العرب بن منظور.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 309.
(3) الطرائف الأدبية للميمني ص 35.
(4) هذا البيت قد يكون إضافة في جواهر الأدب للهاشمي ج2 ص 33 (مؤسسة المعارف).