top of page

لقد كتبت خلال الحرب الأمريكية البريطانية الأخيرة على العراق في الفترة القصيرة من 15 مارس 2003 حتى سقوط بغداد في 9 أبريل 2003 ست قصائد عن العراق. كما كنت قد كتبت عن العراق والكويت قصائد أيام الغزو العراقي للكويت سنة 1990. وكنت أنوي أن أسمي مجموع القصائد عن العراق في الجزء الثاني من ديواني "العراقيات". ولكن اقترح بعض الأصدقاء نشرها الآن في ديوان منفصل وعدم تأخيرها حتى طباعة الجزء الثاني من الديوان خاصة لأني لم أنشر القصائد الجديدة في الصحف حتى الآن. فقبلت الاقتراح وهاأنا أرتبها حسب الترتيب الزمني لكتابتها.

 

وبما أن قصيدتي "دموع على بغداد" تنم عن الحزن الشديد الذي انتابني يوم كتابتها، فإنها تعيد إلي شعور الحزن كلما قرأتها. وقد بكّت أصدقائي الذين سمعوها مني في ذلك اليوم. ومع أن موسيقى القصيدة التي تلتها "لصوص بغداد" أشجى وقعاً، فإني اخترت "دموع بغداد" عنواناً لهذا الديوان.

 

عندما غزا العراق الكويت في 2 أغسطس 1990 انتاب العرب عامة، وأبناء الخليج خاصة، شعور بالغضب من الغزو الآثم، كما شعرنا جميعاً بالأسى والحزن على ما أصاب الشعب الكويتي الشقيق من ظلم وتشريد، فكتبت قصيدة (الكويت) معبراً عن الحسرة الشديدة والأسف الذي كنت أحس به، ويحس به إخواني الخليجيون. ثم عبرت عن غضبي على الغزو بقصيدة (صدام)، وهي هجاء للرئيس صدام حسين بسبب ما ارتكبه من جرائم ضد إخواننا الكويتيين.

 

ولكن لما اقترب موعد قصف بغداد المؤكد آنذاك من قبل الولايات المتحدة تألمت وأنا أفكر كيف سيحل الدمار ببلد عربي آخر. لقد شعرت بالحزن الشديد على بغداد فكتبت قصيدة (بغداد) في 19 أوغسطس 1990. فحبي للكويت التي قضيت بعض السنين فيها لا يقلل من حبي لبغداد عاصمة الخلافة العربية والإسلامية العزيزة على قلوب العرب والمسلمين كافة. كنت أشعر أن دماراً وقع على مدينة الكويت العزيزة، وسيقع دمار على مدينة عربية أخرى عزيزة علينا أيضاً. نحن قوميون لانتمائنا وإخلاصنا لقومنا العرب، ونحن وطنيون لانتمائنا للوطن من المحيط إلى الخليج. لذلك لا يمكن لعربي أن يقبل تدمير أي جزء من الوطن كردة فعل لتدمير جزء آخر منه. كنت أشعر مثل شعور الأم التي قتل أحد أبنائها شقيقه الوحيد في نزاع عائلي، عندما ذهبت إلى الخليفة تطلب منه عدم تنفيذ حكم الإعدام في ابنها الوحيد الباقي، لأن مصيبتها كبيرة بفقد أحد ابنيها، وستكون المصيبة أعظم بفقدهما كليهما معاً. لقد تأثر الخليفة بتوسلها فرق لها وعطف عليها ولم ينفذ حكم الإعدام في ابنها. ولكن نفذت أمريكا حكم الإعدام في بغداد بعدما رفض صدام الانسحاب من الكويت طوعاً، وتلا ذلك حصار آثم على الشعب العراقي برمته. وعاودت أمريكا القصف على العراق سنة 1996 فكتبت قصيدة (يا بنت بغداد) مندداً بالعدوان وحالة التفكك والخلافات العربية السائدة.

 

وفي سنة 2001 كان لي لقاء بطبيب قلب وشاعر عراقي مصاب بمرض السرطان. أتى الطبيب إلى الدوحة للعلاج لعدم توافر الأدوية الكيماوية التي يحتاج إليها في العراق بسبب الحصار. ولما احتاج ذلك الطبيب إلى جرعة علاج بالأشعة طلب مني المساعدة في ترتيب الجرعة في الدول المجاورة لأن العلاج بالأشعة في قطر تحت الإنشاء. وحيث إن الاسم العائلي للطبيب العراقي "الكويتي" لكون أجداده هاجروا من منطقة الكويت أصلاً (كما أخبرني) اقترحت أن أكلم وزير الصحة الكويتي لمساعدته في الكويت. لكن المريض رفض اقتراحي قائلاً: "ولو وافق الكويتيون فإني قد أواجه مشاكل في العراق لذهابي إلى الكويت". وأضاف: "إن الكويتيين وللأسف سيعتبرونني من الأعداء الذين غزوا بلادهم. سيعتبرونني من "الجناة" وأنا الضحية". قلت له إن وضعك هذا يذكرني بوضع جليلة التي قتل أخوها جساس زوجها كليباً وتسبب في حرب البسوس. لقد طردتها أخت كليباً قائلة لها: "اخرجي من مأتمنا، أنتِ أخت واترنا وشقيقة قاتلنا". فخرجت جليلة باكية تقول:

يابنة  الأقـوام إن  شئتِ فلا        تعجلي باللوم حـــتى  تـسألي

فعلُ جساسٍ على وجدي به        قاطعٌ ظــهري  ومـدنٍ أجلي

يـا  قتيلاً  قـوض  الدهرُ به       سقفَ بيتيَّ جميعاً  مــن عَلِ

هدمَ البيت  الذي استحدثته        وانثنى في هدمِ بيتي  الأول

يَشتفي المدركُ  بالثأر وفي        درَكـي   ثأريَ  ثُكلُ  المثـكِلِ

 

لذلك رتبت للدكتور الشاعر "جعفر الكويتي العراقي" بمساعدة الأخ وزير الصحة في دولة الإمارات العربية المتحدة جرعة علاجية في الإمارات. ولقد شكرني الطبيب لتعاطفي معه بقصيدة (أخي الطبيب) فعارضتها بقصيدة (ما للطبيب؟) عبرت فيها عن مشاعري نحوه ونحو الأخوة في العراق، وما يعانونه من الحصار الذي كان المرضى أمثاله بعض ضحاياه. ولقد أثار اسمه "الكويتي" وهو شخص عراقي شكوكاً ومشاكل له في المطارات الخليجية ومنها مطار الدوحة مما اضطره للسفر على لندن لتكملة علاجه.

 

لقد كثرت مآسينا وتكررت "نكساتنا" في السنوات القليلة الماضية، ووصل وضعنا العربي إلى واقع يرثى له. كنا في السابق نقرأ عن المآسي بعد أن تقع، أما اليوم فأصبحنا نشاهدها أمام أعيننا يومياً حال وقوعها. فخلال النصف الأول من إبريل الحالي كنا نرى على شاشات التلفزيون تخريب البيوت ودماء وجثث الشهداء من إخواننا في فلسطين، وفي نفس الساعة نرى هدم البيوت وجثث ودماء إخواننا في العراق تسيل أمامنا، ونحن لا حول لنا ولا قوة. نشعر بالقهر والسخط والغضب لما يقع على إخواننا من ظلم، ولا يستطيع الفرد منا أن يرد إلا "بلسانه أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان". وغالباً ما تكَمم الأفواه حتى لا تتفوه بغضبها في أوطاننا.

 

لما قامت الانتفاضة الفلسطينية وبرزت بطولات المقاومة، كتبنا قصائد الحماسة، وأشدنا بالمقاومة وأطفال الحجارة، ولكن الغزو الأمريكي البريطاني على العراق لم يشهد المقاومة العنيفة المتوقعة، إلا في الأيام الأولى، وسرعان ما انهارت المقاومة العراقية، وانهزم الجيش العراقي. تلك الهزيمة السريعة أصابت الملايين من العرب بالدهشة والإحباط بل والخجل أيضاً. فلم يكن هناك للشعراء العرب ذوي الشعور الوطني والقومي إلا رثاء العراق والبكاء عليه.

 

لذلك كانت قصائدي الست التي كتبتها عن الحرب الأخيرة على العراق مشوبة بالأشجان والآلام، تعبر عن مشاعري ودموعي الحزينة، وخوفي على العراق والعرب، وقد خلت من الحماسة والتفاؤل والأمل، بل كانت قصائد رثاء وبكاء.

لقد أرغمتني الأوضاع السياسية الراهنة أن أحذف بعض الأبيات من هذه الطبعة، كما غيرت بعض الألفاظ والأسماء مما أفقد الأبيات قيمتها التاريخية. آمل أن أتمكن في المستقبل إن شاء الله من نشر النصوص الأصلية كما كتبتها يوم الحدث.

أرجو الله العلي القدير أن يرينا قريباً بصيصاً من الأمل والتفاؤل، وأن يبدل جدبنا خصباً، وإحباطنا تفاؤلاً، وهزائمنا نصراً، وهو على كل شيء قدير.

 

د. حجر أحمد حجر البنعلي

    17 أبريل 2003

bottom of page