top of page

 المقصود بالقلب الذي نعر فه اليوم بإنه "عضو في الجهة اليسرى من الصدر وظيفته ضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم"، هو معنى جديد مبني على علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء التي ارتكز عليها علم الطب الحديث. أما الأطباء القدامى وبالأخص الذين عاشوا في الفترة التي نطلقعليها اسم العصر الجاهلي من التاريخ العربي فإنهم كانوا يعتقدون أن القلب منبع الروح وموطن العقل.

ففي اللغة قلب الشيء وسطه ولبه وخالصه ومحضه، وفي الحديث " إن لكل شيء  قلباً  وقلبُ القرآن يـس" وقلب النخلة جُمّارُها وهي شطبةٌ بيضاء في وسطها عند أعلاها إذا تلفت ماتت النخلة.

وكلمة القلب مشتقة من (قَلَبَ) أي حول الشيء عن وجهه، فهو منقلبٌ ومتقلب. وسمي القلب قلباً لتقلبه من ظرف إلى آخر، بين سعادة وحزن وإيجابٍ وسلبٍ، ولذلك قال النبي (ص): "سبحان مقلب القلوب". وقال تعالى: "تتقلب فيه القلوب والأبصار". وقال الشاعر:

وما سُمِّيَ القلبُ  إلاَّ من تقلبه             والرأيُ  يَصرف  للإنسان أطوارا(1)

أما العباس بن الأحنف فقال في فوز(2):

فما دونَها في الناس للقلب مطلبٌ         ولا خلفها في الناس للقلبِ مذهبُ

وهان  عليها  ما   ألاقي   فربمـا         يكون   التلاقي   والقـلوب  تَقلّـبُ

وبما أن القلب عضوٌ والعقل وظيفةٌ فلقد استعمل العرب القدامى كلمة العقل بطرق المجاز للدلالة على القلب لأن العرب وغيرهم من الأمم في العصور القديمة كانت تعتقد أن القلب مركز العقل (وسأفصل ذلك فيما بعد) ثم التصقت كلمة العقل كإحدى مرادفات كلمة القلب، ولذلك انعدم التمييز بين العقل والقلب في لغة العرب. يقول الشاعر الجاهلي أوس بن حُجر(3):

صحا قَلْبُهُ  عن سكره   فتأملاَّ           وكانَ  بذكرى  أمِّ  عمرو موكَّلا

وقصد أوس هنا بكلمة قلبه عقله. أما النابغة الذبياني فقال إن قلبه قد ضل وطالت عمايته بعد أن تعلق بحب نعم(4):

لولا حبائل من نُعمٍ عَلِقْتُ بها              لأ قصر القلبُ عنها أيَّ إقْصـارِ

فإن أفاق لَقَد طالَتْ  عَمايَتُـهُ              والمرء  يُخْلقُ  طَوْراً بَعْدَ  أطـوارِ

واستمرت فكرة ارتباط العقل بالقلب عند العرب حتى بعد العصر الجاهلي بقرون، وأفضل من يُستشهد بأشعاره من الشعراء الحديثين نسبياً وأعظمهم أبو الطيب المتنبي الذي قال عمن اعتبرهم جهلاء :

فَقْرُ  الجَهولِ بلا قلبٍ إلى أدبٍ       فَقْرُ الحمار بلا رأس إلى رَسَنِ(5)

أي إن الإنسان إنما يتأدب بقلبه (أي عقله) وهؤلاء لا عقل لهم فهم لا يفتقرون إلى الأدب مثلهم مثل الحمار الذي لا رأس له فإنه لا يفتقر إلى حبل الرسن الذي يقاد به. وقال أبو الطيب أيضا يفتخر(5):

ومن يَكٌ  قلبٌ كقلبي لـه           يشقُ إلى العزِّ قلبَ التَّوى

ولا بد للقلب   من  آلـــة           ورأي يصدّع صُمّ  الصفا

أي إن من كان له قلب مثل قلبي في الشجاعة وصل إلى العز بشق قلب الهلاك وقوله (ولا بد للقلب من آلة) يقصد العقل آلة القلب، فلا بد للقلب من عقل ورأي وحزم يشق به الخطوب ولو اشتدت كالصخر. ومن لم يقتنع بارتباط العقل بالقلب في شعر المتنبي فيما ذكرته أعلاه فليقرأ ما قاله في البيت التالي(5):

نَطِقٌ  إذا حطّ  الكلامُ  لِثامَهُ         أعطى بمنطِقِه القلوب عقولا

والقرآن الذي حَفظ للعرب لغتهم ودينهم أفضل مرجع وحجة  للدلالة على استعمال العرب لمصطلحاتهم اللغوية أيام نزول القرآن الكريم، فالقرآن نزل بلغة العرب المتداولة والمعروفة للنبي (ص) وأصحابه ومن عاش من حوله من العرب. والحكمة من استعمال الكلمات والمصطلحات العربية حسب معانيها المعروفة آنذاك للعرب هي تسهيل فهمها، حيث إن اللغة العربية كانت وسيلة نشر الرسالة السماوية بين العرب، فبتلك اللغة نزل القرآن، وبتلك اللغة خاطب الرسول (ص) العرب. ولذلك ليس هناك تناقض بين القرآن والطب في المقصود بقوله تعالى "أم لهم قلوب  يفقهون بها". لأن كلمة قلوب آنذاك تعني عقولاً كما ذكرنا سابقا.  وإذا حدد الطب أن مركز العقل هو الدماغ وليس القلب فهذا تطور جديد لم يكن معروفا  آنذاك للعرب. وكذلك ورد المعنى نفسه في قوله تعالى "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" أي عقل، بغض النظر عن مكان مركز العقل في الجسم، لأن القرآن - كما ذكرنا سابقاً - لم ينزل ليعلم الناس علم التشريح ومواقع الأعضاء في الجسم وإنما أنزله الله على رسوله  ليعملهم أمور دينهم. ومثل ذلك قال ابن خلدون في مقدمته عن طب العرب أيام الرسول (ص): أنه صلى اللّه عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب.

المراجع:

(1) لسان العرب لابن منظور

(2) ديوان العباس بن الأحنف

(3) ديوان أوس بن حجر

(4) ديوان النابغة الذبياني

(5) ديوان أبي الطيب المتنبي

(6) مقدمة ابن خلدون ص 309

bottom of page