top of page

تقديم:

 

إني على علم بأن مرض السل من أقدم الأمراض التي أصيب بها الإنسان. فأردت أن أبحث في الأدب العربي عن مقالات وأشعار عن مرض السل للدراسة والمقارنة بما نعرفه الآن في القرن الحادي والعشرين عن الطب، فتذكرت فجأة بدر شاكر السياب. فلماذا السياب؟

 

لم أسمع بالشاعر بدر شاكر السياب الذي توفي في نهاية 1964م ولم أكن أعرف شيئاً عنه حتى سنة 1967 عندما أهداني صديق من الطلبة العراقيين ديوان (إقبال) للسياب، وقد كنت طالباً آنذاك في جامعة كولورادو الأمريكية. ولقد تأثرت كثيراً بمعاناته وخاصة قصيدته (إقبال والليل) التي كان يناجي فيها إقبال زوجته والتي كتبها خلال أيامه الأخيرة في المستشفى الأميري في الكويت. ومما قال فيها(1):

 

يا أمَّ غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظرةْ

نحو الخليج.

تصوريني أقطع الظلماء وحدي

لولاكِ ما رمتُ الحياة ولا حننتُ إلى الديارْ

حببتِ لي سُدف الحياة، مسحتها بسنا النهار.

وقال في نهايتها:

 

إقبال مدّي لي يديك من الدجى ومن الفلاةْ،               

جسِّي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنانْ

بك ما أفكر لا بنفسي:

مات حبُّك في ضحاه

وطوى الزمان بساط عرسك والصبا في العنفوان.

 

 وكانت دموعي تسيل كلما قرأت تلك القصيدة. ولما سألت عن مرضه قيل لي إنه (السل). واختزنت في ذاكرتي أن السل قتل السياب. ولم أكن أعرف مرض السل ولا غيره من الأمراض آنذاك حيث أني لم أدخل كلية الطب بعد، بل كنت أتخصص في علم الحيوان في مرحلة تسبق دراسة الطب.

 

وبعد أن أنهيت دراستي وعدت إلى الوطن بعد غياب دام أربعة عشر عاماً، لم أقرأ أشعار السياب، لأني شغفت بالشعر العربي العمودي الأصيل الذي أبعدني عن تذوق الشعر الحديث ونفرني من قراءته. ولكن رغبتي في الاطلاع على حقيقة مرض السياب أرغمتني على العودة إلى ديوانه. سحبت الديوان القديم (اقبال) من رف مكتبتي وأعدت قراءته متمعنا في أعراض المرض الذي كان يشكو منه في أشعاره تمعن طبيب مشخص أو أديب متخصص فوجدت أن مرضه الذي قتله لم يكن سلاً بل أسوأَ من السل. عندها قررت أن أقرأ قصائده التي كتبها خلال فترة المرض محللاً ما له علاقة بمعاناته المرضية من خلال أشعاره كما فعلت مع أشعار قيس بن الملوح من قبل التي أثبت فيها أنه لم يكن مجنوناً بل عاقلاً يعاني من الحب واضطراب دقات القلب وأنه مات بجلطة قلبية واضحة (2).

 

ولقد تكونت لدي فكرة عن مرض السياب بعد قراءة قصائده وأدركت أنه كان يعاني من داء عصبي عضال ولكن من حسن حظي أني وجدت في كتاب إحسان عباس (3) أن مرض السياب كان مشخصاً قبل وفاته وهو ALS . فهل أكتفي بما وصلت إليه عن السياب فأبحث عن شاعر آخر أصيب بالسل لدراسة أشعاره؟

ولكن معاناة السياب وصراعه مع المرض العضال ووصفه للناس، عما يحس من ألم ويأس، زادتني عطفاً وحزناً عليه ورغبة في الاطلاع على ما كان لديه. فقررت مواصلة البحث في أشعاره وتحليل قصائده. فهل أشعاره الأخيرة متوافقة مع ذلك التشخيص؟ أم أنه كان يعاني من مشاكل أخرى؟ وحيث إني سأنشر هذه الدراسة في حلقات (بين الطب والأدب) لزملائي الأطباء بشكل خاص، فلابد أن أنهج في هذه الحلقات نهجاً مألوفاً لدي ولديهم وذلك بالتركيز على الأعراض والمشاكل الصحية والنفسية والاجتماعية للمريض (الشاعر). سأربط بين حقيقة المرض وأعراض السياب كما ذكرها في شعره. وإن وجدت مجالاً من الوقت سأقارن بين ما أحس به السياب من معاناة وبين ما أحس به مريض آخر كان يعاني من نفس المرض القاتل وسجل ما كان يحس به. أما بخصوص أشعار السياب ونقدها الأدبي أو اللغوي فليس ذلك مجالي ولا مجال تخصصي، وقد كتب عنها الكثير.

 

أما مرض السياب الحقيقي فلقد وصفته كتب الطب الحديثة مثل كتاب هاريسن في الطب الباطني (4) بأنه مرض خطير يتلف الأعصاب لا تعرف أسبابه ولا يعرف له علاج حتى الآن. يقتل خلايا الأعصاب فيؤدي إلى ضمور وتلف في ألياف العضلات المتصلة بتلك الأعصاب. فتفقد العضلات المصابة القدرة على الحركة. لذلك يصاب المريض بالشلل والرعشة مع احتفاظه بكامل قواه العقلية. ولكن المرض يتقدم مع الزمن حتى يصيب جميع عضلات الجسم فيؤدي إلى وفاة المصاب خلال سنوات قليلة.

 

والمفاجأة الغريبة أنه خلال قراءتي لقصائد السياب اكتشفت أنه أصيب بالسل فعلاً وهو في عز الشباب وبرئ منه. وحيث إن إصابته بمرض السل لم تذكر من قبل في الكتب التي قرأتها عن حياة السياب فلا بد أن أثبت تشخيصي مستدلا بأشعاره وسيرته في الحلقات القادمة والله الموفق.

المراجع:

  •  ديوان (إقبال) وكذلك ديوان (اقبال وشناشيل بنت الجلبي).

  •  مجنون ليلى: مجلة الصحة ، العددان 5و6 لسنة 1999 والعدد 7 لسنة 2000 م.

  •  إحسان عباس: بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشعره.

  • Harrison’s : Principles of Internal medicine 14th Edition 1998.  

bottom of page