المـعـانـاة:
يقول إيرلي الأمريكي المصاب بنفس داء السياب: "كان يذهلني أن أرى كلّ مواهبي تطير منّي .. اعتدت أن أرسم أن أقرأ، أن أكتب. ولكن مجهوداً لعمل مثل ذلك الآن مضنٍ جدًّا". فكان إيرلي يرى أن "كلّ إعاقة تجعله شخصاً أقلّ مما كان ". وكان يرى أن إعاقته نزعت منه الصفات التي تجعله مفيداً للآخرين، ونزعت منه قدرة الاستمتاع بالحياة.
فالشكوى من أعراض المرض التي تحدثنا عنها في الحلقات السابقة بينت معاناة شاعرنا السياب، وقد عبر عن تلك المعاناة بإسهاب في قصائده أثناء المرض. ومع أنّ الأطباء يتعاطفون مع المريض ويودون أن يبذلوا كل ما في وسعهم لمساعدة مريضهم، إلا أن الوقت الذي يقضيه الطبيب مع كل مريض من مرضاه في المستشفى وجيز جداً، لأن الطبيب مضطر إلى أن يواصل المرور يومياً على كل مرضاه، فهو مضطر إلى التركيز على المرض العضوي تحت العلاج، ولا يستطيع ـ وللأسف ـ قضاء وقت أطول لبحث الجوانب النفسية التي يعانيها المريض، ويستمع إلى كل شكوى مهما يحس به المريض من خوف وقلق على الذات والأهل والأطفال. كما أن ليس كل مريض مثل بدر شاكر السياب، يقدر أن يعبر عن شعوره في قصيدة يقرؤها الطبيب وغيره. وقد كان السياب حريصاً على أن يشارك مَن حوله فيما ينتجه من شعر. فمعاناة السياب وتوجسه من المستقبل المظلم المخيف في القصائد التالية، أمثلة لما يحس به المريض الذي يتوقع الموت أثناء مرضه. فتمعن الطبيب في ما يحس به بدر شاكر السياب قد تجعله يحس بتعاطف أكثر مع من في مثل حال السياب.
فأثناءَ وجود السياب في بريطانيا للعلاج، كتب في شهر ديسمبر 1962 شبه يوميات شعرية عن معاناته التي شبهها بمعاناة أيوب فسمى اليوميات (سفر أيوب)، ولقد تأثر بقصة أيوب وصبره وأن الله شفاه من المرض بعد معاناة طويلة، لأنه قبل بقضاء الله وصبر على البلاء، فحاول بدر أن يتأسى بأيوب، فاستفتح قصيدته استفتاح مؤمن صابر مثل أيوب قائلاً:
لك الحمدُ مهما استطالَ البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ
لك الحمدُ أن الرزايا عطاءْ
وأن المصيبات بعض الكرمْ
ولكنه عاد إلى الشكوى ووصف معاناته الطويلة القاسية بمرارة:
شهورٌ طوالٌ وهذي الجراحْ
تمزِّقٌ جنبيَّ مثلَ المُدى
ولا يهدأ الداءُ عند الصباحْ
ولا يمسح الليلُ أوجاعه بالردى (7).
والجراح التي كان يشتكي منها بدر آنذاك، جراح جلدية حقيقية تؤلمه بسبب بقائه في السرير طويلاً، ولكنها في تلك الفترة بسيطة نسبياً، تُعالج بالمراهم والمساحيق، ولكن الجراح التي تؤلمه أكثر جراح نفسية، من قلق وخوف من المصير المحتوم. كما أن بُعده عن أهله وأطفاله وشوقه إليهم، وتفكيره فيما ستؤول إليه حياتهم بعد وفاته، زاد من آلامه النفسية وهمومه الفكرية. ولذلك كتب بعد يومين في (سفر أيوب الثالثة) ما يُحس به من أحزان متراكمة، وضجر من الوحشة والألم، وشوق للأطفال والأحباء، بأنغام حزينة بائسة، وموسيقى مؤثرة تجعل القارئ المرهف الإحساس يحس وكأنه يسمع صوت الشاعر وبكاءه:
بعيداً عنك في جيكور عن بيتي وأطفالي
تشدّ مخالب الصوّان والأَسْفلتِ والضجرِ
على قلبي، تمزِّق ما تبقى فيه من وترِ...
أخي يا أنتَ يا قابيلُ.. خذ بيدي على الغُمّة!
أعنّي، خفف الآلامَ عني واطرد الأحزان؟
وأين سواك من أدعوه بين مقابر الحجَر؟
أأصرخُ في شوارع لندنَ الصمَّاء: "هاتوا لي أحبائي"؟
ولو أني صرختُ فمن يُجيبُ صراخَ منتحرِ
تمرّ عليه طولَ الليلِ آلافٌ من القُطُرِ؟ (7).
وفي (سفر أيوب الرابعة) تضرع إلى الله أن يعينه ويحميه ويعيده إلى أهله ووطنه ناجياً من الموت حيث قال:
ياربَّ أيوبَ قد أعيا به الداءُ
في غربة دونما مالٍ ولا سكنِ
يدعوك في الدجَنِ
يدعوك في ظَلَموت الموت: أعباءُ
ناءَ الفؤادُ بها فارحمه إن هتفا:
يا منجياً فلكَ نوحٍ مزِّق السُّدَفا..
عني، أعدني إلى داري، إلى وطني!
وفي نفس القصيدة اعتبر أرقه بسبب همومه مثل نزاع الموت:
في لندنَ الليلُ موتٌ نزْعُهُ السّهَرُ
والبردُ والضجرُ
وغربةٌ في سوادِ القلبِ سوداءُ (7).
وبعد ذلك بشهرين وهو في لندن كتب (إرم ذات العماد) في 21-2-63، يصف قصة إرم كما رواها جده، وفي نهاية القصيدة قال:
إرمْ ...
في خاطري من ذكرها ألمْ
حلمُ صباي ضاعَ ... آهِ ضاعَ حينَ تمْ
وعمري انقضى (14).
عندما تقدم المرض المشابهُ لمرض السياب بالمريض الأمريكي (إيرلي)، كان يحلم بما يتمناه في اليقظة، فقد جلب له الشلل أحلاماً غير منتهية للحركة. يحلم أنه يمشي ويركض ويقفز. ولذلك كان الحلم بالمشي لمريض مثلهما حلماً ممتعاً يتمنى تكراره. وكما كان العاشق الذي أصابه الأرق بسبب البين عن المحبوب يتمنى النوم كي يرى خيال الحبيب، كان المشلول يتمنى النوم كي يحلم بالمشي أو الركض. وقد كتب بدر قصيدة (أظل* من بشر) في 25-2-63 في لندن يناجي ربه أثناء أرقه:
يا رب لو جدتَ على عبدكَ بالرقادْ
لعله ينسى
من عمره الأمسا
لعله يحلم أنه يسير دونما عصا ولا عمادْ (14).
واستمع بدر إلى تسجيلات أم كلثوم وهو على فراش المرض في لندن، ولعله كان يستمع إلى أغنية (أنت عمري) فكتب (أم كلثوم والذكرى) في 9-3-63:
قساة كلُّ من لاقيتُ: لا زوجٌ ولا ولدُ
ولا خلٌ ولا أبَ أو أخٌ فيزيل من همّي..
ولكن ما تبقى بعدُ من عُمريْ؟ -وما الأبدُ..
بعمري- أشهرٌ ويريحني موتٌ فأنساها (14).
وفي البصرة وبين أهله وأطفاله بعد إخفاقه في الحصول على علاج ناجع، كتب في 1-11-63 يناجي عذابه ويشكو محنته في قصيدة سماها (خطاة وآلهة):
أنت تدري أنّ في قلبي جرحي
ألف آهٍ تتنزّى دون بوحِ
أنت تدري صار مثل الليل صبحي
أنت تدري أيها الجاني- فنحِّ
ودِّع الآلام واقبل بعض نصحي
يا عذابي خلِّني وحدي أضحّي
دع أغانيّّ اللواتي صغتهنَّ
في أسار مبهم بين الدُجُنّةْ
دع أماني فإنيَّ عفتهنَّ
يا عذابي دع رؤى عاودتّهنَّ
ودع الآهَ فلن تجديك أنَّه
ثم دعني فأنا أشتات محنة (10)
الهذيان:
هذيان المريض أو بُعدُه عن الواقع فيما يقول ويفعل، قد يقع بسبب حمى، وأحياناً بسبب الشعور بالعزلة في المستشفى، وخاصة في غرفة الإنعاش. ولقد رأيت مرضى عاقلين تنتابهم نوبات فقد التركيز والمنطق الرزين، كما يفقدون العلاقة مع الواقع، ويصبح المريض العاقل مثل الشخص الذي أصيب بخرف وهو أمر مؤقت جداً يزول بنقله إلى غرفة عادية فيها شباك يرى المريض منه العالم الخارجي من حوله.
ولا شك أن السياب كان يهذي كثيراً في الأيام الأخيرة من حياته في المستشفى الأميري في الكويت عندما قاربت المنية، كما هو موّثق فيما كتب عنه. ولكني وجدت في بعض قصائده قبل ذلك نوباتٍ من الهذيان. فقد يظهر الهذيان في بعض الأبيات بينما بقية القصيدة متوازنة، وفيها صفاء الذهن واضح، لأنه لا يكتب القصيدة من بدايتها إلى نهايتها في نفس الساعة، ولكنه يضيف مقطعاً بعد مقطع في أوقات مختلفة. وصفاء الذهن قد يتغير من وقت لآخر حسب الحالة المرضية والنفسية للمريض.
ومن نماذج هذيانه الشعري كما بدا لي قوله في (القصيدة والعنقاء) التي كتبها في درم في 10/1/63:
... سيفزع اللهُ من الأمواتِ
ويسحبُ الموتَ ويغفو فيه
مثل دثارٍ في الليالي الشاتية... (7)
وفي قصيدة (ها.. ها..هوه) التي كتبها في لندن في 29/3/63 يتضح الهذيان من عنوانها. قال فيها:
كما يشعرَ الأعمى إذا النورُ يظهرُ
يناديك: "ها.. ها.. هوهُ" ماءٌ ويقطرُ...
وناديتِ: "ها.. ها.. هوهُ" لم ينشرِ الصدى
جناحيه أو يبكِ الهواءُ المثرثرُ
ونادى ورددا:
"ها.. ها.. هوه".. (14)
وقال وهو في مستشفى (سانت ماري) قصيدة سماها (في المستشفى):
أفاق على ضربة في الجدارْ
-هو الموتُ جاء!
وأصغي: أذاك انهيار الحجارْ
أم الموت يحسو كؤوس الهواء؟
لصوصٌ يشقّون درباً إليه..
مضوا ينقبون الجدار... (14)
وفي قصيدة (حميد) قال:
سيبكي له الله من رحمة واعتذار (14)
وقال (في غابة الظلام):
عيناي تُحرقان غابة الظلامْ
بجمرتيهما اللتين منهما سقَرْ ..
فطالعتني – كالسراج في لظى الحريق-
تكشيرة رهيبةٌ رهيبة
تُليحها جمجمتي الكئيبة
سخرية الإله بالأنامْ (14).
فلا عجب أن يحس السياب بالضياع وأن يهذي أحياناً، فمنذ 1961 وهو يعاني أعراضاً مضنية لداء يكسح قواه يوماً بعد يوم، لم يترك له إلا الجنان واللسان حتى الرمق الأخير بعد ثلاث سنوات. والواضح أن بدراً في بداية المرض في سنة 1961 لم يدرك أنه سيعيش ثلاث سنوات أخرى في عذاب المرض. فكان يكتب ما يظن أنها ستكون قصائده الأخيرةَ، ولذلك بانت معاناته في شعره منذ ذلك الوقت كما نرى في قصيدة (دار جدي) التي كتبها آنذاك :
أهكذا السنونُ تذهبُ
أهكذا الحياة تنضبُ؟
أحس أنني أذوب، أتعب
أموت كالشجر (11).
وفي قصيدة (أمام باب الله) التي كتبها في 26-8-61 قال:
منطرحاً أمام بابك الكبيرْ
أصرخ في الظلام أستجيرْ...
في ظلمة البحار والفيافي
وفي متاهة الشكوك والجنون
تعبت من صراعي الكبير..
منطرحاً أصيح أنهش الحجار:
أريد أن أموت يا إله! (11)
وفي الحلقة القادمة سأتطرق لهاجس الموت عند السياب.
المراجع:
-
بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره: إحسان عباس (1983).
-
إقبال: بدر شاكر السياب.
-
رسائل السياب: ماجد السامرائي.
-
قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.
-
البواكير: بدر شاكر السياب.
-
أعاصير: بدر شاكر السياب.
-
منزل الأقنان: بدر شاكر السياب.
-
بدر شاكر السياب حياته وشعره: عيسى بلاطة (1987).
-
قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.
-
الهدايا: بدر شاكر السياب.
-
المعبد الغريق: بدر شاكر السياب.
-
بدر شاكر السياب ج1 ص19: إيليا حاوي.
-
أزهار وأساطير: بدر شاكر السياب.
-
إقبال وشناشيل ابنة الجلبي: بدر شاكر السياب.
-
Solomon: Handbook of Psychiatry
-
شعر بدر شاكر السياب: حسن توفيق.
-
K. Kiple: The Cambridge World history of Human Disease
-
Harrison’s: Principles of Internal Medicine 14th Edition
-
ديوان بدر شاكر السياب: ج2 ناجي علوش
-
http://www.projo.com/special/noel/main.htmA Time to Die :
-
ديوان أبي فراس الحمداني.
(* اسم القصيدة في الديوان (أطل من بشر) وقد يكون ذلك خطأ مطبعي والصحيح (أقل من بشر) لأنه قال في نهاية القصيدة : .. بأنه أقل من بشر).