top of page

إني أكتب تحليلي هذا عن الشاعر بدر شاكر السياب وصراعه مع المرض وأعلم أن بعض زملائي الأطباء الذين سيقرؤون هذه الدراسةَ لا يعرفون عن السياب إلا اليسير. لذلك فلا بد أن أقدم لهم نُبذة عن نشأته والتقلبات التي طرأت على حياته وأثرت في سلوكه وصحته قبل أن أتطرق لتفاصيل مرضه. فقصة حياة السياب قصة مأساة إنسان، بل قصص مآسٍ متراكمةٌ في حياة شاعر فقير منذ ولادته إلى أن توفاه الله بعد صراع مرير وطويل مع مرض عُضال. 

 

نشأته:

ولد بدر سنة 1926 في قرية فقيرة تسمى جيكور، قريبة من البصرة في العراق. كان والده فقيراً "لا يملك شيئاً، ولا يعمل شيئاً وإنما يعتمد في رزقه على أخويه" (1) فقد بدرٌ أمَّه وهو في السادسة من العمر فتزوج والده بعد ذلك بثلاث سنوات امرأة أخرى وانتقل للعيش معها في بيت آخرَ تاركاً الأطفال مع الجد والجدة. فأحس بدر آنذاك باليتم. لقدْ فقَدَ حنان الأبوين في سن مبكرة أثرت في نفسيته تأثيراً قوياً ذكره فيما بعد:

 

أبي..  منه جردتني النساءْ    وأمي طواها الردى المعجلُ

ومالي من الدهر إلا رضاكْ     فرحماك   فالدهر لايعدلُ  (2)

 

ولقد ربته جدته وعوضته عن حنان الأبوين ولكنه فقدها أيضا، حيث ماتت وهو في السادسةَ عشرةَ من العمر، فحزن حزناً شديداً عليها وأحس بالتعاسة، ولام نفسه على فقدها ، وظن وهو في تلك السن المبكرة أن حبها له وشفقتها عليه أديا إلى وفاتها، وأن عنايتها به كان عبئاً عليها عجل في وفاتها. هذا المنطق الغريب ليس غريباً على من في مثل سنه، فقال:

 

قد فقدت الأمَّ الحنونَ  فأنستـ          ني مصابَ الأم الــرؤوم الحنونِ

كم تحملتِ  في حياتكِ  سُقماً          ودَّ  قلبي   لو  أنَّه   يعتريني

أيها القبر كن  عليها  رحيماً          مثلما  ربّتِ    اليتامى   بلين..

أيها القلب هل  تلام  شِمالي           والتي  تفعل   الذنوبَ  يميني؟

لا تُلمْني فلستُ قد علم  اللـ           ـه  أردّ  القضاءَ    لو يأتيني..

ولُمِ  الموتَ  والزمانَ   الذي          يسلبُ ما  ترتجيه غير ضنينِ (3)

 

وقد تكون المشاعر النفسية التي تكالبت عليه من صغره، كالشعور باليتم والفقر وقباحة الشكل، دفعته للتنفيس والتعبير عنها بالشعر الذي بدأ كتابته وهو في الثانيةَ عشرةَ من العمر. فكانت أغلب أشعاره تدور حول الشقاء والمآسي والنكد.

 

التذبذب الفكري:

ومن دراستي لطفولة بدر وصباه ونشأتِه في السير المنشورة عنه ورسائله إلى أصحابه (3) ومن خلال التمعن في أشعاره، تبين لي أنه منذ أن بلغ التاسعة من العمر لم يكن هناك من يربيه تربية صارمة. فلم يكن له قدوة عائلية يحتذي بها للدخول في معركة الحياة من أب أو جد أو أخ أكبر، حيث انتقل منذ تلك السن للعيش في بيت الجدة. كانت جدته تطعمه وتؤويه وتعطف عليه. ولكن لا يمكن لصبي في مثل ذلك العمر أن تكون جدته قدوة له، كما قد لا يقبل نصائحها وهو الذكر المقبل على المراهقة بما فيها من ثورة وتحديات. لذلك نشأ بدر متذبذب الفكر والعقيدة دون أسس روحية أو اجتماعية عميقة راسخة يهتدي بها. ولا أنكر أنه صلى وصام رمضان وهو صغير مثل أقرانه في مجتمعه الريفي، ولكن كان ذلك تصرفاً آلياً لا عقائدياً. بل قد تكون صلاته وصيامه بسبب الضغط الاجتماعي عليه من أصحابه، فكان يصلي ليسر الأصدقاء كما يتضح من ذكر الصلاة في رسالة لصديقه خالد الشواف سنة 1942 قبل أن يتجاوز السادسةَ عشرة من العمر: "فلأزف إليك بشرى ... وذلك أنني بعد أن صمت شهر رمضان بأجمعه واضبت على الصلاة ولا أزال إلى الآن" (3).

 

كان بدر كالزورق التائه في خضم البحر الهائج يبحث عن مرفأ للنجاة. اعتنق الشيوعية لتنجيه من الفقر والحرمان اللذين قاساهما، وكان يعتقد أن الشيوعية ستشفي غليله بالانتقام من الطغاة المسؤولين والأغنياء الذين أرهقوا الفقراء واستغلوا كدهم كما كان يشعر. ذلك الإحساس بالإحباط والشعور بالغبن جعله يثور على بعض معتقدات مجتمعه الدينية وحتمية القضاء والقدر، لذلك تجرأ حتى على الله سبحانه في ثورة غضب قائلاً:

 

ما كان   حتماً  علينا    أن  يُعذبنا     طاغٍ   وأن  يشهد  الرحمن  بلوانا

النارُ أشهى فهات  النار  تَصهرنا    يوم   الحساب    ومتعنا    بدنيانا

إن كان  لا يدخل  الجنّاتِ داخلُها    إلا  شقياً   على  الأولى  وغرثانا

وكان أمرك أن نرضى بما صنعوا    فاحفظ عبيدكَ .. فالشيطان مولانا  (4)

 

وهجا مؤذن مسجد قائلاً:

تمنيتُهُ لا يسمعُ الصوتَ أخرساً        تمنيتُ لو يهوي إلى الأرض من عل!

ألا  وقرت  آذانُ  من يسمعونه        بأشلاء   قلبٍ  في  ضلوعي  مقتّل

ألا نثرتْ من تحتِ أقدامه أسىً        حجارةُ  ذاك   المسجد     المتبتِّلِ! (5)

 

وقد اقتبس بعض تلك الأبيات من معلقة امرئ القيس بن حجر الذي قال:

مكرٍ مفرٍ   مقبلٍ   مدبرٍ   معاً        كجلمود صخرٍ (حطه السيلُ من علِ)

وما ذرفت عيناك إلا  لتضربي        بسهميك   في  (أعشار  قلب  مقتّلِ)

تضيءُ الظلامَ  بالعشاء كأنها        منارة   ممسى   (راهب       متبتّلِ)

 

فتبديل قول امرئ القيس (حطه السيل من علِ) بـ(يهوي.. من عل)ِ وتبديل (أعشار قلب مقتل) بـ(أشلاء قلب .. مقتل) مقبول، ولكنه لم يوفق عند تغيير (راهب متبتل) أي منقطع لعبادة الله بـ (المسجد المتبتل).

 

ولا تحتاج تلك الأبيات التي تجرأ بها على الرحمن وقال إن "الشيطان مولانا" إلى شرح لأنها واضحة، ولكنها تحتاج إلى تمعن. فهل قال بدر ما قال كفراً بالله؟ وهل ابتعد عن الدين عقيدةً عندما اعتنق الشيوعية؟ قد يكون الأمر كذلك لعدم وجود أسس تربوية ودينة يرتكز عليها كما ذكرت سابقاً. ولكني بعد دراستي لشخصيته، أشك في أن ما تفوه به من ثورة ضد بعض المعتقدات الدينية كان عن عقيدة حقيقية‍! بل كان يتفوه برفضه للمعتقدات الدينية ليضاهي اليساريين في عصره ويتقرب إليهم. أي إنه بهجومه على المعتقدات الدينية كان يُحاول أن يثبت للشيوعيين رسوخ الفكر الماركسيِّ في عقله، وأنه يصلُح أن يُعتمد عليه، مع أن ثقافته الشيوعية كانت محدودة وسطحية، لا تؤهله لمركز قيادي في الحزب. ويذكر إحسان عباس أن بدراً التحق بالحزب الشيوعي عن طريق صديق لعمه وأن بدراً قال: "ذات يوم سمعناه يتحدث إلينا عن الحزب الشيوعي العراقي الذي يعمل سراً. وفي أحد أيام الجمعة دعانا إلى بيته وأخرج لنا استمارات الانتماء إلى الحزب الشيوعي... واختار لنا أسماء مستعارة وملأنا الاستمارات ... وهكذا أصبحت لا مجرد شيوعي وإنما عضواً في الحزب الشيوعي العراقي" (1). ولكنه وجد نفسه قريباً من الشيوعيين في أفكارهم العامة ضد الأغنياء ومطالبتهم برفع الظلم عن الفقراء أمثاله، لذلك سخر من الأغنياء وتوعدهم فصفق له الشيوعيون بإعجاب: 

 

النائمين على الحرير  وحولهم        شعبٌ  مراقده  على  الغبراءِ

التاركين   لكل    كــوخٍ    آهةً      ولكل قصرٍ ضحكةَ  استهزاءِ

السارقين  من  الرضيع   وأمهِ       لبناً  لكلبٍ  نابــحٍ     وجِراءِ

السالبين   من  العذارى بسمةً       ذابت  فكانت  لمعةً   لـحذاءِ

بالأمس عبأت الجنــود وأعلنتْ       حرباً على  الفاشيةِ   النكراءِ

فتحطمت بيد الشعوب سلاسلٌ       ومُدىً وأجنحةٌ  من  الظلماءِ  (6)

 

وقال في (رثاء فلاح):

ويك ما يخسر الوجودُ إذا ما   مات من في الوجود من أغنياء

 

ولكن الشيوعيين أهملوه فيما بعد، وقربوا عبد الوهاب البياتي ليكون شاعرهم بينما يعاني بدرٌ التشرد في الكويت سنة 1952 بسببهم (1). ومن الأمور التاريخية الأخرى التي تدل على تذبذبه وتناقضه أنه مدح عبد الكريم قاسم لحاجته إليه:

 

  أنزلتَ بالثورة البيضاء عاليها       سفلاً وعاجلت منها الرأس فانقطعا

  عبد الكريم الذي أجرى بثورته      ماءً   ونوراً   كغيم ممطر  لمعا (6)

 

وذلك ليضمن استمرار مساعدته المالية للعلاج، ولما قُتل عبد الكريم كان بدرٌ يتعالج في لندن، ففرح بموته وهجاه:

 

هُرع الطبيب إليّ وهو يقول ماذا في العراقْ

الشعب ثار ومات قاسم أي بشرى  بالشفاءْ!

ولكدت من فرحي أقوم، أسير أعدو دون داءْ  (7)

 

ولما فشل في جذب النساء بغزله ونسيبه اعتبر الشعر الذاتي - كشعر الغزل- مشاعر رجعية، وتجنبها فترة، ثم عاد إليها. فقد صرح للأستاذ (محمود) العبطة (1951) بأنه يكره الشعر الذاتي، بل أنه "يعتبر الشعراء الذاتيين عملاء للاستعمار.. وأن الشعر  السياسي أفضل من الشعر الذاتي" (8).  وكان رفض النساء له المشكلة الكبرى في حياته قبل المرض. وتطورت ردة فعله إلى حقد على النساء كافة، وقد صرّح بذلك قائلاً:

 

حتى غدوت وما أرى امرأةً            إلا ونار  الحقد  تضطرم  (9)   

 

وقد أحتاجُ إلى أن ألقي على تلك المشكلة بعض الضوء في الحلقات التالية، لفهم مشاكله النفسية التي أثرت في صحته.

كما انغمس بدر في شرب الخمور التي سأفصلها فيما بعد عندما أتحدث عن مشاكله الصحية قبل المرض الكبير. كان يشرب ليسكر، ولينسى مآسيه ومصائبه. وتردد على المومسات لينتقم لنفسه من رفض الفتيات مبادلته الحب. 

ثم ارتد بدر عن الشيوعية وكفر بها، بعد أن أدرك أنها لن توصله إلى الجنة والنعيم في الدنيا كما وعده الشيوعيون، ولم يحصل من الشيوعية إلا على السجن والتشرد والعذاب. عاد إلى الدين واعتصم بالقومية العربية والإسلام، وتحول من شاعر شيوعي إلى شاعر متعبد يتغنى بمولد الرسول – صلى الله عليه وسلم – كما سأذكر في الحلقة القادمة.

المراجع:

  1. بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره: إحسان عباس (1983).

  2. إقبال: بدر شاكر السياب.

  3. رسائل السياب: ماجد السمرائي.

  4. قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.

  5. البواكير: بدر شاكر السياب.

  6. أعاصير: بدر شاكر السياب.

  7. منزل الأقنان: بدر شاكر السياب.

  8. بدر شاكر السياب حياته وشعره: عيسى بلاطة (1987).

  9. قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.

bottom of page