سيف البحر والصبا
كان الشاعرُ في سفينة تمخر عباب بحرٍ بعيدٍ عن الخليج، تطل نافذته على شواطئ بها جبال وتلال تكسوها الأشجارُ الخضراء، فأعجبته مناظرها الجميلة أولاً. ولكنّه بينما كان جالسًا ينظر إلى البحر والسيف الغريب، سرح بخيالهإلى الخليج، وتذكر أيام الطفولة والصبا على سيف البحر، فأثارت الذكرى مشاعره فقال:
علاجُ القلبِ أن أردَ البِــحارا وسِيفُ البحرِ أحرى أن يُزارا
فسيفٌ أخضرُ الأشجارِ نَضرٌ بجنبِ البحرِ جاورهُ جِوارا
غريبٌ، ليس هذا البحرُ بحري فعيني أنكرت ذا الاِخضرارا!
بروحي، أين سيفُ الأمسِ عني ورملٌ في النضارةِ لا يُجارى؟
فشوقي للخليجِ أثارَ شِعري بما في النفسِ من وَلَهٍ فثارا
زمانٌ سرّنا خَورٌ صغيرٌ وكنّا فيهِ أطفالاً صِغارا
تذكرتُ البحارَ فويحَ نفسي وهل أنسى المحاملَ والبِحارا؟
وأيامَ الصبا نلهو ببحرٍ كأنّا بينَ أمواجٍ سُكارى
إذا ما هاج ذكرُ الأمس قلبي تصدّعَ خاطري والقلبُ طارا
فأينَ شبابُنا عن بحرِ أمسٍ؟ فما عرفوا محامِلَنا الكِبارا
سنابيكًا وأبوامًا عِظامًا تقودُ الريحَ تفترشُ الغِمارا
تجوبُ البحرَ طولَ الليلِ تسري تصبِّحُ مسقطًا أو زنجبارا
رجالُ الأمسِ أقوامٌ كرامٌ خِيارٌ كلُّهم كانوا خِيارا
همُ الجيلُ الذي أُطري بفخرٍ ولا أُطريهم إلا افتخارا
ورِثنا الفضلَ منهم فافتَـخرنا فكانوا في الحياةِ لنا مَنارا
فمجلسُ والدي والقومُ فيهِ رأيتُ بهِ السكينةَ والوَقارا
فذكرى الأمسِ راسخةٌ بقــلبي كَكنْزٍ لن يُباعَ ولن يُعارا
أحِنُّ إلى الصِّبا والأمسِ حــتى دموعُ العين تنهمرُ انهمارا
وإن حنَّ الفؤادُ إلى صِحابي سكَبْتُ دموعَ أجفاني غِزارا
فأذكرُ في الصبا ما طابَ عيشًا وأنسى المرَّ طعمًا والشَّرارا
ونجلسُ فوقَ نَدِّ الرملِ ليلاً إذا ما الليلُ قد غشي النهارا
ليالٍ بــدَّدَ الظلـماءَ بدرٌ رعانا سامرينَ وما توارى
فقربَ السِّيفِ مجلسُنا صــغارًا وما سيفٌ يجمِّعُنا كِبارا
ليالي الشيبِ قد صارت طِوالاً وكانت في الصبا تمضي قِصارا
لهيبُ الصيفِ يحرقُنا نهارا وماءُ البحرِ يُسعفنا مِرارا
رَضِينا بالحرارة فاصطبرنا وما كانَ الرضا إلا اضطرارا
ولم نعرفْ لحرِّ القيظِ بردًا إذ التكييفُ لم يصلِ الديارا
فكانَ الليلُ من جنَّاتِ عدنٍ وكان الصيفُ من سَقَرٍ أُوارا
فظهري يصطلي بالشمس ظهرًا وحولَ البطنِ أحكمــتُ الإزارا
وأُسرعُ حافيًا للبحرِ أَجري فحيَّا اللهُ في الحرِّ البـحارا
فأنتَ البحرُ أندى الكونِ كفًّا وأجودُ من كسا جِيدَ العذارى
فألبستَ النساءَ سُموطَ دُرٍّ تلألأ في الصدورِ وقد أنارا
إذا أُثني عليكَ فذاك حقٌّ فحتى الغيثُ منك أتى انحدارا
أُحبُّ البحرَ والأسيافَ عُمري ولا أهوى الصحارى والقِفارا
فإن فارقتُ سِيفَ البحرِ يومًا حنَنتُ، فلمْ أُطقْ عنه اصطبارا
أزورُ البحرَ أُغرقُ فيه همِّي إذا ما الهمُّ فاجأني وزارا
يَفِرُّ الهمُّ عندَ البحــرِ عنِّي وآلامي تَفِرُّ به فِرارا
علاجُ الهمِّ في سيفٍ وبحرٍ فسيفُ البحر أحــرى أن يُزارا