top of page

هل كان قيسٌ مجنوناً

لم يكن قيسٌ مجنوناً بل كان عاشقاً مفرطاً في العشق إلى درجة تسمى جنوناً، وهي أعلى مراتب العشق.

سبب التسمية:

قيل إنه سمي المجنون لقوله:

 

ما بالُ قلبِك يا مجنونُ قد خُلِعا            في حبِّ من لا تَرى في نَيلِهِ طمعا

 

وقبل الحديث عن جنون قيس، يستحسن أن ننظر إلى كلمة جنّ في اللغة. فجَنّ الشيءَ ستره، وجِن الليل وجنونُه: شدة ظلمته، ويقال لكل ما استتر جُّنَّ، واستجنّ فلانٌ إذا استتر بشيء. والجَنان هو القلب لأن الصدر يُجِنّه أي يستره. وفي حديث الحسن: لو أَصاب ابنُ آدمَ في كلِّ شيء جُنَّ، أَي أُعْجِبَ بنفسِه حتى يصير كالمَجْنون من شدَّةِ إِعْجابِه. وفي الحديث: اللهم إني أَعوذ بك من جُنونِ العَمَلِ أَي من الإعْجابِ به(1). فالجنون هو الاستتار أو شدة الإعجاب بالشيء، ومن ذلك تكون شدة الولع والإعجاب بالحبيب جنوناً.

 

فإذا حللنا أشعار قيس تحليلاً طبيًّا ولغويًّا، فإننا لا نجد ما يثبت أنه كان مصاباً بمرض عقلي، أو أنه مجنون بالمعنى الحرفي للكلمة، أي مصاب بالخَبَل وذهاب العقل وعدم الإدراك للواقع الذي يعيش به، بل على العكس من ذلك، فقد كان قيس مدركاً لواقعه إدراكاً جيداً، وكان يعتبر نفسه مجنوناً بليلى، أي مغرماً ومولعاً بها، بل كان يفتخر بأنه مجنون بها حبًّا وكلفاً:

وإني  لمجنون  بليلى  موكـلٌ         ولست عزوفاً عن هواها ولا جلدا

إذا ذكرت ليلى بكيت صبابــة         لتذكارها حتى  يبلَّ  البُكا  الخــدّا 

وقال:

 وَقَد صِرتُ مَجنوناً مِنَ الحُبِّ هائِماً       كَأَنِّيَ عانٍ في القُيودِ وَثيقُ

وقال:

جُنِنتُ بِلَيلى وَالجُنونُ  يَسيرُ       عَلى حُبِّها عَقلي يَكادُ يَطيرُ

وَما بِيَ إِلا حُبُّ لَيلى كِفايَةٌ        جُنوناً وَإِنّي في الغَرامِ أَسيرُ

 فهو لا يُنكر جنونه في حبها:

 عَلى أَنّي بِها المَجنونُ حَقًّا       وَقَلبي مِن هَواها في عَذابِ

 وقال:

 وَمِن أَجلِها سُمّيتُ مَجنونَ عامِرٍ       فِداها مِنَ المَكروهِ نَفسي وَمالِيا

 

وهو لا يعتبر نفسه مجنوناً أي مخبولاً، ولكنه مشغوف بحديث النفس عن ليلى أي موسوسٌ، والوسواس في اللغة: حيث النفس، وقد صرح بذلك قائلاً:

فَقالوا أَمَجنونٌ فَقُلتُ مُوَسوِسٌ       أَطوفُ بِظَهرِ البيدِ قَفراً إِلى قَفرِ

لذلك لا تعتبر تسميته بالمجنون نقيصةً من قدره، لأنه يستلذ بما يقصده هو بالتسمية، فعذاب الحب مرغوب لديه، كما قال :

جُنِنتُ بِها وَقَد أَصبَحتُ فيها       مُحِبًّا  أَستَطيبُ  بِها   العَذابا

فهو يكرر ما يقصده من جنون، وهو جنون الحب أي شدته:

إِذا جَنَّ لَيلي جُنَّ عَقلي بِذِكرِها       وَعِندَ طُلوعِ الشَّمسِ إِشراقُ نورِها 

لذلك فهو يُقِرُّ ويصرح بجنون حبه ولا يُنكِره:  

يسمّونني المجنونَ حين يرونني    نعم  بيَ من ليلى الغَداةَ جنونُ

ولكنه ينفي أنه مصاب بما يقصده الناس من جنون أو خبل:

يَقولونَ مَجنونٌ يَهيمُ بِذِكرِها       وَوَاللهِ ما بي مِن جُنونٍ وَلا سِحرِ

 

كان قيس يَهذي ويُخطّ على الأرض ويعبث بالتراب والحجارة، ولا يُجيب أحداً سأل عن شيء، فإذا أحبوا أن يتكلم أو "يثوب عقله" ذكروا له ليلى، فيقول: بأبي هي وأمي، ثم يرجع عليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم(2). فأي جنون ذاك إذا كان لفظ "ليلى" يشفيه. وشاعرنا يعترف بذهوله وبأن عقله يشط بليلى بعيداً عمّا حوله. ولانشغال عقله بليلى، تبدر منه بعض الأخطاء التي يركز عليها من أراد تعقب هفواته ويتهمه بالجنون:

 

أَيا وَيحَ مَن أَمسى يُخَلَّسُ عَقلُهُ       فَأَصبَحَ مَذهوباً بِهِ كُلَّ مَذهَبِ (أ)

وَلي سَقَطاتٌ حينَ أُغفِلُ ذِكرَها       يَغوصُ عَلَيها مَن أَرادَ تَعَقُّبي

 

الجنون في شعراء الغزل:

 ادّعاء العاشق الجنون بمعشوقته وسيطرتها على عقله أمر مألوف في شعر الغزل، ألم يقل جميل بن معمر صاحب بثينة(3)؟:

وإذا  قُلتُ  ما  بي  يا  بُثَينَةُ  قاتِلي       مِنَ الحُبِّ  قالَت  ثابِتٌ  وَيَزيدُ

وإن قلت رُدِّي بعضَ عقلي أعش به       مع الناس قالت ذاك منك بعيدُ

 وقال عمر بن أبي ربيعة(4):

ليلةَ السبتِ إذ نظرتُ إليها       نظرةً زادتِ الفُؤادَ  جُنونا

 وقال: 

بَل جُنَّ قَلبُكَ أَن بَدَت لَكَ دارُها       جَزَعاً وَكِدتَ تَبوحُ بِالكِتمانِ

 وقال:

 جُنَّ قَلبي فَقُلتُ يا قَلبِ مَهلا       لا تُبَدِّل بِالحِلمِ وَالعَزمِ جَهلا

 وقال:

 فَتَراءَت  حَتّى  إِذا جُنَّ  قَلبي      سَتَرَتها  وَلائِدٌ  بِالثيابِ

قُلتُ لَمّا ضَرَبنَ بِالسترِ دوني       لَيسَ هَذا لِعاشِقٍ بِثَوابِ 

وقال العباس بن الأحنف(5،6)

 لقد وَلَدتْ حواءُ  منك بليّــةً             عليَّ أقاسيها وخبلاً من الخبلِ

 وقال المجنون:

 أحبُّك حبًّا لو تحبينَ مثلهُ         أصابكِ من وَجْدٍ علي جُنونُ

 

واعتبر الأدباءُ الغرامَ نوعاً من أنواع الجنون، وعرّف داود الأنطاكي الغرام في بأنه "اشتغال بالحب والهوى يُطلق على ذهاب العقل في العشق"(7). ولكن الجنون في اللغة قد يعني المبالغة في الإعجاب بالشيء كما ذكرنا. ونحن في هذا العصر، قد نقول عن منظر جميل جدًّا من مناظر الطبيعة الخلابة بأنه منظر "يجنن"، ونقصد بذلك التعبير روعة المنظر وسيطرته على النفس، وبمثل هذا المعنى قال قيس:

 

أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني     فقد جُنَّ من وجدي بليلى جنونُها

 

ومثل ذلك قال شاعر آخر(7):

 هبّت له ريحٌ  فجنّ جنونُـه       لما أتاه نسيمها يتوجّس

 

الجنون في شعر كبار الشعراء:

قال ابن المعتز(8):

 أَقرَرتُ أَنِّيَ مَجنونٌ بِحُبِّكُمُ       وَلَيسَ لي عِندَكُم عُذرُ المَجانينِ

 وقال بشار بن برد(9):

 ما كُنتُ أَوَّلَ مَجنونٍ بِجارِيَةٍ       تَسَفَّهَت لُبَّهُ وَالمَرءُ صِنديدُ

 أي إني لست أول سيد شجاع استخفت به جارية بسب جنونه بها أي بسبب شدة عشقه لها.

 وقال الصمة القشيري(10):

 رأتني الغواني قد ترديتُ   شملةً       وأُزِّرتُ أخرى فازدرتني عُيونُها (ب)

وفي شملتي لو كُنَّ يدرين سَورَةٌ       من الجهلِ مجنونٌ بهنَّ جُنونُها (ت)

 وقال ابن نباتة المصري(11):

 عذَّبوني  في  هواها  عذَّلي       ونهوني  زائداً   والقلب  مفتونُ

ثم قالوا  أنتَ  مجنونٌ  بها       قلت  مجنونٌ  ومجنونٌ  ومجنونُ 

الجنون أعلى مراتب الحب:

كما أن الجنون يعتبر أعلى مرتبة من مراتب الحب المتعددة. فمنازل ومراتب الحب التي ذكرتها في فصل (الحب العذري)، وتكرر ذكرها في عدة مراجع، كلها مبنية على مثل ما قاله الثعالبي في (فقه اللغة) مع اختلاف بسيط، فمراتب الحب كما ذكرها شوقي ضيف ترتب كالآتي: "أول مراتبه الهوى وهو الميل إلى المحبوب، ويليه الشوق وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب وهو أول الأُلفة، ثم الشغف وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغَرام وهو التعلق بالمحبوب تعلقاً لا يستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق وهو إفراط في الحب، ويغلب أن يلتقي في المحب والمحبوب، ثم التَّـتيُّم وهو استعباد المحبوب للمحب، يقال تيَّمه حباً، ويليه الهُيام وهو شدة الحب حتى يكادَ يسلب المحب عقله، ثم الجنون وهو استلاب الحب لعقل المحب" (12).

 إدارك قيس لواقعه:

 ولا شك أن قيساً كان يدرك واقعه إدراكاً كاملاً، فإن كان حبه مرضاً، فإنه كان قادراً على تشخيص مرضه، ولم يكن في حاجة إلى طبيب نفسي يشخص مرضه، فقد شرحه هو لمحبوبته:

 

وشغلتُ عن فهم الحديث سوى        ما كان فيكِ   فأنتم شغلــي

وأُري  جليسي    إذ   يحدثنـي        أن قد فهمت وعندكم عقلي

 

فلم يكن قيس يتفرغ لسماع أحدٍ غيرِ ليلى، ولا حديث إلاّ عنها، فإذا كانت ليلى هي موضوعَ الحديث، فإنه مستعد للمشاركة بروائع فكره وعقله، حتى يُدركَ الحاضرون أنه سليم العقل وليس به جنون :

 

إذا ذكرت ليلى عَقَلت  وأُرجعت           روائع عقلي من هوى متشعّبِ

وقالوا صحيح ما به طيفُ جِنّة           ولا الهمُّ إلاّ  بافتراء   التكـذّب

 

فأي "مجنون" ذاك الذي يستطيع أن يتخلص من جنونه عندما يشاء، ويذهب بعقله عندما يشاء، فما سمعت طوال أيام عملي في هذه المهنة، مهنة الطب، ولا قرأت في كتب الطب عن مجنون يستطيع أن يتحكم في عقله. وأي مجنون يستطيع أن يصوغ تلك الأشعار الرقيقة، يُضمنها روائع الإبداع الفني وبلاغة اللغة وسعة الخيال وعمق التفكير في قول مثل قول قيس:

 

وإني لأستغشي وما بي نعسة             لعلَّ خيالاً منك يلقى خياليا 

وقوله:

كأن فؤادي في مخاليب طائر              إذا ذُكرت ليلى يشدّ به قبضـا

 

بل سَخِر هذا "المجنون" من عقول الذين جهلوا حقيقة مشكلته، واعتقدوا أنه مصاب بالجن، وحاولوا طرد الجنِّ منه، ولكنه اعتبر هؤلاء هم المجانين :

 

وجاؤوا إليه  بالتعاويذ   والرّقـى           وصبّوا عليه الماء من ألم النكسِ (ث)

وقالوا به من أعين الجنّ نظرةٌ           ولو عقلوا قالوا به   نظـرة الإنسِ

 

توحّشه:

ولقد اختلق الرواة أن الخليفة الأموي أهدر دم "المجنون" إذا زار ليلى وأحلّ قتله، وهذا مستحيل لأنه مخالف للشريعة، و"ليس على المجنون حرج"، ولو كان إهدار دمه قبل أن يصاب بالجنون، فإنه سيبين الرواة أن إهدار الدم قد رُفع عنه بعد أن أصيب، وهذا لم يذكر. فإن صحت قصة إهدار الدم، فإنها تنفي قصة الجنون. مع أني أعتقد أن قصتي الإهدار والجنون كلتيهما ملفقتان، لأن الحديث مع المرأة ليس من الحدود التي يعاقب عليها بالقتل في الإسلام.

 

كما ادّعى الرواة للدلالة على جنونه أنه كان يمشي في الصحارى عارياً بين الوحوش، يبحث عن جبل التوباد، فيصل إلى الشام، ثم يوجهه الناس إلى نجد، فيمشي إلى أن يصل اليمن، ثم يُوجه مرة أخرى إلى نجد وهكذا، ولكن شعره يوضح أنه كان صاحب مطيّة يركبها ومتاع، في عزلته عن الناس: 

أظنُّ هواها تاركي بمضلّـة            من الأرض لا مالٌ لديّ ولا أهلُ

ولا أحد أُفضي إليه وصيّتي            ولا صاحبٌ إلاّ المطيّة والرحـلُ

 

ويزعُم الرواةُ أن سبب خروجه إلى البراري، أنه قال "شكيت إلى ليلى ما نزل بي من حبها، وقلت لها إن لم ترحميني ذهب عقلي، فقالت: هو المطلوب، فهِمتُ لمرادها". ولا يعقل أن يكون ذلك القول صحيحاً، لأن ليلى كانت تبادله الحب وكانت في شقاء من أجله بإجماع الرواة، كما أن ذلك القولَ يناقض القصة التالية: إن أم قيس طلبت من ليلى أن تزوره لتخفف ما به عندما مرض وساءت حالته، وإنها أتته سرًَّا وقالت له :

 أخبرتُ أنك من أجلــي جننت وقد      فارقت أهلك لم تعقل ولم تفقِ

 فأجابها :

 قالَت جُنِنتَ عَلى رَأسي فَقُلتُ لَها       الحُبُّ  أَعظَمُ   مِـمّا  بِالمَجانينِ

الحُبُّ  لَيسَ يُفيقُ الدَهرَ  صاحِبُهُ       وَإِنَّما يُصرَعُ المَجنونُ في الحينِ

 

لا شك عندي أن قيساً لم يكن مجنوناً، ولكنه إنسان متيمٌ بإنسانة تبادله الحب، قُضي عليه أن يعيش بالحرمان بعيداً عنها، فلم يجنِ إلاّ العذاب والبلوى من حبه، بينما ينعَم غيرُه بالقرب منها :

 

قضاها لغيري وابتلاني  بحبهـا          فهلا بشيء  غيرِ  ليلى  ابتلانيا

قضى الله بالمعروف منها لغيرنا          وبالشوق مني والغَرام قضى ليا

 

لذلك شعر بالقهر والإحباط، وشعر أنه ضحية من ضحايا الدهر:

 وتالله إن الدهر في ذات بيننـا            عليّ لها في كل حال لجائــر

 

وهو ضحية من ضحايا المجتمع الذي لم يتحرك لإنصافه من أبي ليلى. وهو يشعر أنه بسبب حبه محاط بالأعداء. وأدرك أخيراً أن حبه الكامنَ في نفسه سيقضي عليه، بجلب البلايا التـي تحيط به كالجيوش القادمة لإهلاكه:

 غزتني جنود الحب من كل جانب          إذا حان من جند قفولٌ أتى جندُ

 

العشق الصوفي:

ولقد فعل شعراء الصوفية ما فعل قيس ولم يتهمهم أحد بالجنون. فلو قارنا سيرة قيس بسيرة عمر بن الفارض شيخ الشعراء العاشقين وإمام المتصوفين، لوجدنا كثيراً من الشبه في سيرتيهما، وإن اختلفا في المعشوق، لأن معشوقة قيس إنسانة عرفها منذ طفولته، ورأى جمالها ومحاسنها، أما ابن الفارض فمعشوقه الإله، جل أن يُرى. وكما اعتزل قيس الناس اعتزل ابن الفارض خمس عشرة سنة في أودية مكة وجبالها. وذكر ابن الفارض نفسُه: "كنت أستأنس فيها بالوحوش ليلاً ونهاراً"(13)، وكان ابن الفارض يغشى عليه أيضاً. يقول ابنه "... يكــون مستلقياً على ظهره مسجًّى كالميت، وتمر عليه عشرة أيام متواصلة... لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يتحرك، ثم يستفيق وينبعث من هذه الغيبة، ويكون أول كلامه أنه يملي من القصيــدة"(14).  كما ذُكرتْ عن حياة الشيخ ابن الفارض قصص يصعب تصديقها، ومنها أنه طرب يوماً لسماع صوت في السوق بالقاهرة، فخلع ملابسه ورقص عرياناً في السوق، ورقص جماعة من المارين حتى سقط أكثرهم على الأرض، "وحُمل الشيخ إلى الجامع الأزهر عرياناً مكشوف الرأس. وأقام في هذه السكرة أياماً ملقى على ظهــره مسجًّى كالميت"(15)

ولقد هان الموت عند كل من قيس وابن الفارض في الحب والمحبوب، فقال قيس:

 

إذا بان من تهوى وأصبح نائياً            فلا شيء أجدى من حلولك في القبرِ

 

وأشعار قيس في الحب والغزل تفوق أشعار ابن فارض رقة وعذوبة، ولكن أشعار ابن الفارض في حب الموت والفناء من أجل المحبوب(16) أقوى وأعمق من أشعار قيس في ذلك، مع أني أكاد أجزم أن ابن الفارض وغيرَه من الشعراء الصوفيين، قد تأثروا بأشعار المجنون وأمثاله من الشعراء العُذريين في الحب بصورة عامة. وقد عبر ابن الفارض عن الرغبة في الفناء من أجل الحبيب في الأبيات التالية تعبيراً قويًّا(16) :

 

ومن لم يكن في عزة النفس تائهـاً         بحبٍّ  الذي  يهوى  فبشِّــره   بالـذُّلِّ

إذا  جاد   أقوام   بمـال   رأيتهــم         يجودون بالأرواح  منهـم  بـلا  بخلِ

وإن هُدِّدوا بالهجرِ ماتوا   مخافــة         وإن أوعدوا بالقتلِ  حنّوا  إلى  القتـلِ

لعمري هم العشاقُ  عندي حقيقـةً         على الجدِّ والباقون منهم على الهزلِ

 وقوله:

 ما لي سوى روحي وباذل نفسـه         في حبِّ من يهواه ليس بمسـرفٍ

 

أما قيس فقال :

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه       وإن كنت من ليلى على اليأس طاويـا

خليلي إن  ضنّوا  بليلــى  فقرِّبـا       لي النعش  والأكفان   واستغفــرا   ليـا

ولكن ابن الفارض يفضل الموت في الحب على الحياة، وهو يرمز إلى حب الإله حيث قال:

وعش خالياً   فالحبُّ  راحته  عَنـا         وأوله سقم    وآخـره  قتـلُ

فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به         شهيداً وإلاّ فالغَرام له أهـلُ

وقال:

وموتي بها وجداً حياة  هنيئـة       وإن لم أمت في الحب عشتُ  بغّصةِ

 

فالمحب الحقيقي لا يبالي بالموت من أجل المحبوب. والحب الشديد يثير الأشجان في الأعداء والخلان كما قال قيس:

وَبي  مِن هَوى لَيلى  الَّذي  لَو  أَبُثُّهُ       جَماعَةَ أَعدائي  بَكَت  لي عُيونُها

وأضاف مبيناً شدة ذلك الحب الذي وصفه بالجنون أي شدة الكلف به:

أَرى النَّفسَ عَن لَيلى أَبَت أَن تُطيعَني       فَقَد جُنَّ مِن وَجدي بِلَيلى جُنونُها

 

لم يكن المجنون مجنوناً:

قال ابن سلاّم: لو حلفتُ أن مجنون بني عامر لم يكن مجنوناً لصدقتُ، ولكن تَولّّهَ لما زُوِّجت ليلى وأيقن اليأسَ منها، ألم تسمع إلى قوله(2):

 

أيا ويحَ من أمسى  يُخَلِّسُ  عقلُه          فأصبحَ  مـذهوباً   به  كلَّ   مذهبِ

خَلِيًّا  من  الخِلاّنِ   إلا   مُعَذِّراً           يُضاحِكني مَنْ  كان  يَهوى  تَجَنُّبي

إِذا ذُكِرَت لَيلى  عَقَلتُ  وَراجَعَت          رَوائِعُ  قَلبي   مِــن  هَوًى    مُتَشَعِّبِ

وَقالوا صَحيحٌ ما بِهِ طَيفُ  جِنَّةٍ          وَلا   الهَــمُّ     إِلاّ   بِافتِراءِ   التَكَذُّبِ

وَشاهِدُ وَجدي دَمعُ عَيني  وَحُبُّها         بَرى اللَحمَ عَن أَحناءِ عَظمي وَمَنكِبي

 وقال:

 يَقولُ أُناسٌ  عَلَّ  مَجنونَ  عامِرٍ       يَرومُ سُلوًّا قُلتُ أَنّى لِما بِيا؟

بِيَ اليَأسُ أَو داءُ الهُيامِ أَصابَني       فَإِيّاكَ عَنّي لا يَكُن بِكَ ما بِيا 

وقال:

أَمُزمِعَةٌ  لِلبَينِ  لَيلى  وَلَم   تَمُت       كَأَنَّكَ عَمّا قَد أَظَلَّكَ  غافِلُ

سَتَعلَمُ إِن شَطَّت بِهِم غُربَةُ النوى       وَزالوا بِلَيلى   أَنَّ لُبَّكَ زائِلُ

 

وذكر أبو فرج الأصفهاني في الأغاني أن الأصمعي قد قال عن قيس: إنه لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به لَوثة أحدثها العشق كلوثة أبي حَيَّة النُّميري(2). والسبب في وصف أبي حية باللوثة أن أبا حية وهو الهيثم بن ربيع، كان جباناً وله سيف ليس بينه وبين الخشب فرق، يسميه لعاب المنية(17).

 

الخلاصة:

وخلاصة القول إن قيسَ بن الملوح كان ضحية الإنسان الذي منعه من العيش مع محبوبته، وضحية الزمان الذي فرق بينه وبينها. لذلك شعر بأن الوحوش في البراري أرحم عليـه من الإنسان، ففضل العيش بينها في القفار بعيداً عن الناس. فتلك كانت فلسفة قيس في الحياة نتيجة لتجربة مُرة عاشها، ملؤها اليأس والحرمان. واستنتجت من قراءتي لقصته، وتمعني في أشعاره، أنه كان شاعـراً مبدعاً وعاشقاً مفرطاً، وصاحب مذهب في الحياة، ولم يكن مجنوناً قط. ومع كل ذلك فقد اشتهر هذا الشاعر العاقل، قيس بن الملوح في الأدب العربي بمجنون ليلى، ولذلك سنستمر في تسميته بالمجنون في هذا البحث لأنه اسم تميز به عن بقية الشعراء.

 

شرح المفردات:

أ‌. يُخلس عقله: يُسلب ويُخلط.

ب‌. الشملة: كساء.

ت‌. سورة الجهل: حدته.

ث‌. النكس: الضعف والعجز، ونُكِس المريض: عاودته علته بعد النَّقَه.

 

المراجع:

1. ابن منظور: لسان العرب.

2. الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني المجد 2 سنة 2002م

3. ديوان جميل بثينة- دار صادر.

4. ديوان عمر بن أبي ربيعة –دار الكتاب العربي، بيروت، 1992.

5. ديوان العباس بن الأحنف.

6. زكي مبارك: العشاق الثلاثة.

7. داود الأنطاكي : تزيين الأسواق في أخبار العشاق.

8. مشيل نعمان: ديوان ابن العتز- الشركة اللبنانية للكتاب-1969.

9. حسين حموي: ديوان بشار بن برد –دار الجيل- بيروت،1996.

10. عبد العزيز محمد الفيصل: ديوان الصمّة بن عبد الله القشيري –النادي الأدبي الرياض.

11. ديوان ابن نباتة المصري – دار التراث العربي – بيروت.

12. شوقي ضيف: الحب العذري عند العرب – الدار المصرية اللبنانية 1999م.

13.  د. عاطف جودة نصر: شعر عمر بن الفارض دراسة في فن الشعر الصوفي ص 70.

14. المرجع السابق ص 72

15. المرجع السابق ص 80

16. ديوان ابن الفارض –دار الفكر للنشر والتوزيع – عمان – الأردن1985.

17. كامل مصطفى الشيبي: الحب العذري، دار المناهل- بيروت 1997م

bottom of page