المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد نشري للجزء الأول من ديواني الذي احتوى على قصيدة لامية الخليج سنة 2002م، بدأت أفكر في جمع بقية قصائدي لأنشرها في الجزء الثاني من ديواني. ولقد قطعت شوطاً كبيراً في إعداد القصائد للنشر، ولكن هذه القصيدة الجديدة (القصيدة الحجرية) جعلتني أؤخر نشر القصائد الأخرى إلى الجزء الثالث، لأنها استحوذت على الجزء الثاني بأكمله، وذلك لطولها وحاجتها إلى شروحات خاصة، يصعب حشرها مع بقية القصائد الكثيرة في كتاب واحد.
بدأت قصة هذه القصيدة في أول يوليو 2004م، عندما كنت في دبي في فندق (الحياة ريجنسي) مرافقاً لبعض أفراد العائلة، وكان الطقس حارًّا ورطباً جدًّا، فلم أخرج من الفندق إلا للغداء في منزل بعض الأصدقاء. فتسليت في مراجعة مسودة قصيدة كتبتها قبل ذلك بأسبوع على الكمبيوتر الشخصي المحمول وكانت مداعبة شعرية لصديق. كتبت في تلك القصيدة ثلاثة أبيات تنتهي بلفظة حجر. فأتتني فكرة أن أفصل الأبيات التي كانت قافيتها(حجر) وأجعلها قصيدة منفصلة. ففعلت ووجدت تحدياً كبيراً في أن ألتزم بتلك القافية المتحجرة. كانت تلك الأبيات الثلاثة (حجر الأساس) للقصيدة الطويلة الحالية.
لم أكن أتوقع في البداية أن أنجح في كتابة أكثر من سبعةِ أبيات بالتزام ما لا يلزم مثل ذلك، أي الالتزام بلفظة حجر في قوافي كل القصيدة. ولمَّا وصلت بالقصيدة صباح ذلك اليوم إلى عشرين بيتاً في الفندق، تحولت الفكرة من قصيدة للدعابة والطرافة إلى قصيدة جدية. فصرت أكتب تارة عن الحجر (الشاعر) وتارة عن الحجر والأحجار في الطبيعة وأهميتها للإنسان. فأصبت عدةَ عصافيرَ بحجرٍ واحد.
قد يُرزقُ المرءُ بطفل ينهج في الحياة طريقاً مخالفاً لما انتهجه أبوه. ومع ذلك فوالده يكن له الحب الأبوي ولا يتبرأ منه. والشاعر قد يعبر في شعره عن آرائه الشخصية أو الآراء التي يؤمن بها مجتمعه، وقد يشط في الشعر هنا وهناك يعدد آراءً سمِعها وأفكاراً قرأها. ثم تصبح القصيدة بمثابة أحد أبنائه، فلا يتبرأ منها لأنه لا يؤمن ببعض الآراء التي سردها في القصيدة، كحديثي عن إلهام الجن والشياطين للشعراء وتلقينهم الشعر، أو أن الحبَّ يولِّد حرارة في القلب وغير ذلك من المعتقدات التي لا يقرها العلم الحديث.
لقد نهجت في هذه القصيدة منهجَ القصائدِ التراثية في الشعر العربي القديم، حيث بدأت بالبكاء على الأطلال وأيام الصبا، مثل قولي:
قد قلت للنفسِ كُفِّي الدمعَ واصطبري لِمَ البُـكاءُ على الأشباحِ والحَجَرِ؟
فقالت النفسُ: لا أبكي علـى حَجَرٍ لكن بَكيتُ على من طافَ بالحَجَرِ
ثم ركزت على الغزل وأطلت بدون قصد، لأني وجدت فيه تسلية ومتعة. وقد طلب مني بعض الأصدقاء حذف بعض الأبيات مثل:
نهدانِ في الصدرِ أم حُقّانِ من حَجَرِ؟ قد حَرَّكا الشِّعْرَ والشيطانَ في حَجَرِ
لوجود وصف حسي قوي في البيت، فرفضت لأن في أشعار العرب مقاطع غزلية أقوى وأفضل طبعاً مما قلت كثيراً، ولم يعترض عليها العلماء والفقهاء. ولا يعيب الشاعر شعر الغزل. ولقد دخل كعب بن زهير على الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده، وألقى عليه في المسجد قصيدته (بانت سعاد) التي بدأها بأبيات رقيقة، يتغزل فيها بحبيبته سعاد. ويقول إن عينها مكحولة، وفي صوتها غنّة، ويصف ثغرها وابتسامتها وصفاء ريقها، وأن ريقها كالخمر في حسن المنظر وطيب النكهة ولذاذة الطعم، وهو مخلوط بماء باردٍ صافٍ عندما قال(1):
بانَت سُعــادُ فَقَلـبي اليَومَ مَتبولُ مُتَيَّمٌ إِثرَهـا لَـم يُفْـدَ مَكـبـولُ
وَما سُعادُ غَــداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا إِلا أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرفِ مَكـحولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا ابتَسَمَت كَأَنَّهُ مُنـهَلٌ بِـالراحِ مَعــلـولُ
شُجَّت بِذي شَبِمٍ مِن مـاءِ مَحـنِيَةٍ صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهْوَ مَشمولُ
فلم ينهره النبي (ص) على ذلك التغزل بل كافأه وخلع عليه بردته.
ولكني في قصيدتي لم أستطع أن أنهج نهج القدامى في الانتقال من مدح الحبيبة غزلاً إلى مدح الدابة حيث كان الشاعر القديم يمدح ناقته أو فرسه قبل الدخول في الموضوع الذي قال القصيدة من أجله. لكني دخلت في موضوعي وهو الحجر بعد أن مهدت له بالقول:
هل كانَ إسمي ثقيلاً في مَسامِعها أم قد وَشَتْ حُفْنةُ الواشينَ بالحَجَرِ؟
يا مَن يُعرِّض قلبي للهوى عَرَضاً ما قلتُ يوماً بأنَّ القـلبَ من حَجَرِ
اسمي عـريقٌ وما إسـمٌ يعادِلُه دَع عنكَ ما قالت الحُسَّادُ عن حَجَرِ
والسبب في إهمالي لمدح الدابة واضح، لأني لا أركب جملاً ولا فرساً هذه الأيام، وسيارتي الألمانية خلت من أي سمات شاعرية تستحق الوصف. ولكن بعد أن قلت ذلك الآن وأنا أكتب هذه المقدمة بدأت أفكر ماذا يمكن لشاعر في هذا العصر أن يقول لو أراد أن يحل سيارته في القصيدة محل الناقة في القصائد التراثية؟ وليس هناك ما يجمع بينهما أللهمَّ إلا أن كليهما يسير على أربع. لذلك دعوني أجرب أن أصف لكم سيارتي محافظاً على نفس وزن القصيدة وقافيتها والله المعين:
جــاءت إليـنا بـلا أمٍّ ولا ولـدٍ غراءُ ملـمـومةُ الأطرافِ كالحَجَرِ
عــذراءُ ما حـمـلتْ إلا براكبها وما امـتطى مقعداً فيها سوى حَجَرِ
لها ضــيـاءٌ إذا اشتدَّ الظلامُ بدا ينيرُ دربيَ فـوقَ الرمــلِ والحَجَرِ
قامت عــلى عجلاتٍ ما بها خَورٌ كأنها الصــخرُ أو قُدت من الحَجَرِ
لها انسيابٌ على (الأسفلتِ) مندفعٌ لم تخشَ من حُفَرٍ في الدربِ أو حَجَرِ
سارت بنا في طريق موحشٍ خطرٍ كادت تطـيرُ عن الأحـجارِ بالحَجَرِ
شرابُها النفطُ لا خمرٌ ولا عــسلٌ ولا طعامٌ ســوى مـا كان للحَجَرِ
والبوقُ يسكنُ فـي السكَّانَ منتظراً إن صاحَ يــوماً فويلاتٌ على حَجَرِ
طوبى لسائـقها إن ساق مستمعاً لكوكبِ الشـرق تشدو الحُبَّ للحَجَرِ
همت تسـابقُ يــا ويلٌ لصانعها دعـي التسـابق للأطفالِ لا الحَجَرِ
والجدير بالذكر أن وصفي للسيارة بالملمومة كالحجر، مأخوذ من الأدب العربي، حيث إن الحجر يضرب به المثل بأنه ملموم كما قال تميم بن أبيّ بن مقبل(2‘3):
مَا أطْيَبَ العَيْشَ لو أنَّ الْفتَى حَجَرٌ تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ
وقد يلاحظ القارئ في القصيدة تورية مقصودة في بعض الأبيات، حيث إن لفظة حجر قد تعني حجراً الشاعر وقد تعني حجرَ الجماد، ففي البيت الأول من البيتين التاليين المقصود بالحجر واضح، ولكن في البيت الثاني فيه تورية:
والعِطرُ من نَشرِها يَجري النسيمُ به يَعلو على الوَردِ بينَ الحَوضِ والحَجَرِ
فيبعَثُ الروحَ في مَن ماتَ مِن زَمنٍ كما أصابَ وأجرى الـروحَ في حَجِرِ
فمن أجل توسيع معلوماتي عن الحجر غصت في كتب الأدب العربي واللغة، أبحث عن معانٍ وقصص وأمثال عربية متعلقة بالحجر، لأستنبط منها معانيَ وأفكاراً أصوغها أبياتاً شعرية. ولقد وجدت طرائف وأساطير ممتعة في كتب الأدب عن الأحجار والجواهر. ومن أطرف ما قرأت كيف حاول القدماء أن يعللوا تكوين اللآلئ في الأصداف البحرية، فأتوا بأسطورة خيالية قد تضحك غواصي اللؤلؤ من كبار السن في الخليج. ولقد ظنوا أن الصدفة أذن لحيوان بحري. ففي (ذكر المعادن والأخبار وخواصها) في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي شرح لما تخيله القدماء في باب عن الأحجار الجوهرية أنَّ:
"أصل الجوهر، وهو الدر على ما قيل إن حيواناً يصعد من البحر على ساحله وقت المطر ويفتح أذنه يلتقط بها المطر، ويضمها ويرجع إلى البحر، فينزل إلى قراره ولا يزال طابقاً أذنيه على ما فيها خوفاً أن يختلط بأجزاء البحر حتى ينضج ما فيها، ويصير درًّا، فإن كانت القطرة صغيرة كانت الدرة صغيرة، وإن كانت كبيرة فكبيرة، فإن كان في بطن هذا الحيوان شيء من الماء المر، كانت الدرة كَدِرة، وإن لم يكن كانت صافية، وقيل غير ذلك(4).
ولو آمن اليابانيون بمثل تلك الأسطورة لما أنتجوا اللآلئ المزروعة في الأصداف وأضاعوا على أهل الخليج العربي أهم مصدر من مصادر الرزق آنذاك. والواقع أن هذه الأسطورة ليست عربية الأصل بل يونانية، حيث إن الفيلسوف اليوناني (أرسطو) المتوفى سنة 322 قبل الميلاد ألف كتاباً اسمه (الأحجار) عن الأحجار الكريمة، ومنها اللؤلؤ، حيث كان يعتقد أن اللؤلؤ يتكون من قطرات المطر. ونقل عنه ذلك كثير من العلماء العرب(5).
وزاد شاعر عربي على أسطورة أن اللؤلؤ يتكون من المطر بعداً بصياغة بيت يؤيد ذلك ويضيف أن سم الأفاعي أصله من المطر أيضاً:
كقطر الغيث في الأصدافِ درًّا وفي جوف الأفاعي صار سمّا(5)
ونحن نعلم الآن أن اللؤلؤة تنتج عن انزعاج وهيجان حيوان الصدفة ضد جسم غريب دخل الصدفة وتسرب إليه، فأفرز حيوان الصدفة مادة ضد ذلك الجسم الغريب، فيكوّن ذلك الإفراز اللؤلؤة، وهي من جنس الصدفة نفسها (كربونات الكالسيوم). ومن الممكن إنتاج اللؤلؤة بعملية جراحية وزرع شظية صغيرة من الصدفة نفسها داخل جسم الحيوان.
وفي كتاب المستطرف نفسه ورد عن الماس أسطورة طريفة أيضاً كالآتي:
"الماس يوجد بواد بالهند يقال إنه مشحون بالحيات، فيأتي من يريد استخراجه من ذلك الوادي فيضع في الوادي مرآة كبيرة، فتأتي الحيات فتنظر إلى خيالها في المرآة، فتفر من ذلك الجانب فينزل، فيأخذ ما له فيه رزق، وقيل إنهم ينحرون الجزر ويلقون لحمها في ذلك الوادي، فيلتصق الماس وغيره باللحم، فتأتي الطير، فتختطف اللحم وتصعد به إلى الجبال فتأكل اللحم وتترك الحجر، فيأخذه صاحب اللحم، وقيل: إن الحيات لها مشتى ستة أشهر في مكان، ومصيف ستة أشهر في مكان آخر، فإذا ذهبت إلى مشتاها ومصيفها أخذ الحجر في غيبته. والله أعلم بصحة ذلك. ومن عجيب أمره أنه إذا أريد كسره جعل في أنبوبة قصب وضرب فإنه يتفتت وكذا إذا جعل في شمع أو قار، وإذا جعل عليه دم تيس وقرب من النار ذاب(4).
فسبحان الله كيف كانت دماء تيوسهم تذيب معادنَ كالألماس ولا تذيب التيوس.
لقد حاولت أن أصرّع الأبياتَ، أي أن أجعل آخر الشطر الأول مثل آخر الثاني من نفس البيت، عندما أنتقل من موضوع إلى آخر في أغلب الأحيان، مثلما قلت لما تعديت المئة بيت الأولى مداعباً القارئ حتى لا يمل:
هوِّن عليكَ ولا تجـنحْ إلى الضجَرِ فما فرَغتُ مـن الإطـراءِ بالحَجَرِ
وكذلك:
قرطٌ من الدُّرِّ أو عِقدٌ من الدُّرَرِ يَشِـعُّ حُسناً على الحـسناءِ من حَجَرِ
وخاطبت القارئ مرة أخرى قائلاً:
هلاّ أغنيكَ فاعزفْ لي على الوترِ هلاّ أغنـيكَ أشـعـاراً عن الحَجَرِ
والتصريع مصطلح عروضي يشبَّه فيه شطرا البيت بمصراعي الباب. فيكون آخرا شطري البيت متفقين في الوزن والقافية. ففي بعض الأحيان وأنا أكتب قصيدة يأتي التصريع تلقائياً، فلا أرفضه مع أني أعلم أن بعض النقاد يعارض التصريع داخل القصيدة، إلا إذا انتقل الشاعر من موضوع أو قصة إلى أخرى. ولذلك أعاب النقاد المتنبي، فارس الشعر العربي وعملاقه، لتصريعه بدون سبب حيث قال في قصيدة مدح هارون بن عبد العزيز الكاتب في البيت السادس والثلاثين من القصيدة:
لعمَمْتَ حتى المُدْنُ مـنك مِلاءُ ولـفـتَّ حتى ذا الثَّناء لَفاءُ
وكذلك فعل في مدح المغيث العجلي في البيت التاسع عشر:
تحلو مذاقتُهُ حتـى إذا غَضـِبا حالت فلو قطرتْ في الماءِ ما شُرِبا
ولكن أبا العلاء المعري الذي دافع عن المتنبي، أجاز ذلك التصريع في شرحه لديوان المتنبي في كتاب (معجز أحمد). فعند شرح البيت الأول قال: "قد صرّع البيت في أثناء القصيدة من غير انتقال إلى قصة أخرى وهذا جائز وإن قلَّ"(6). وفي شرحه للبيت الثاني قال: "وقد عيب هذا البيت من جهة التصريع لأنه لا يستعمل إلا في أول القصيدة لا في حشوها إلا عند الخروج من قصة إلى أخرى. وأجيب بأن هذا هو الأكثر وقد جاء مثل ذلك". واستشهد المعري ببيت قديم (7):
ألا نادِ في آثارهِنَّ الغوانيا سُقينَ سِهاماً ما لهُنَّ وما لِيا
نعود إلى ما ذكر في كتب الأدب عن الحجر. لقد قرأت في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني أن "بمصر حجر من يمسكه في يده يتقيأ ما دام في يده"(8).
وفي اللغة العربية أسماء ومصطلحات مختلفة للأحجار حسب حجمها أوردها الثعالبي في (فقه اللغة وسر العربية) وذلك بترتيب مقادير الحجارة:
إذا كانت صغيرة فهي حصاة، فإذا كانت مثل الجوزة .. هي نبلة، فإذا كانت أعظم من الجوزة فهي قنزعة، فإذا كانت أعظم منها وأصلحت للقذف، فهي مقذاف ورجمة ومرداة. فإذا كانت ملء الكف، فهي يهير. فإذا كانت أعظم منها، فهي: فهر، ثم جندل، ثم جلمد، ثم صخرة، ثم قلعة. وهي التي تنقلع من عرض الجبل. وبها سميت القلعة التي هي الحصن(9).
ويورد ابن دريد في كتاب الاشتقاق عن تسمية العرب أبناءها بأسماء خشنة قائلاً: قيل للعتبي: ما بال العرب سمت أبناءها بالأسماء المستشنعة، وسمت عبيدها بالأسماء المستحسنة؟ فقال: لأنها سمت أبناءها لأعدائها، وسمت عبيدها لأنفسها.
وقال: اعلمْ أن للعرب مذاهب في تسمية أبنائها، فمنها ما سمَّوه تفاؤلاً على أعدائهم نحو غالب، وغَلاّب، وظالم، وعارم، ومُنازِل، ومقاتل، ومُعارِك، وثابت، ونحو ذلك... ومنها ما تفاءلوا به للأبناء نحو: نائل، ووائل، وناجٍ، ومُدرِك، ودَرَّاك، وسالم، وسُلَيم، ومالك، وعامر، وسعد، وسَعِيد، ومَسْعَدة، وأسعَد، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمِّي بالسِّباع ترهيباً لأعدائهم: نحو: أسد، وليث، وفَرَّاس، وذِئب، وسِيد،وعَمَلَّس، وضِرغام، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمِّي بما غلُظ وخشُن من الشّجَر تفاؤلاً أيضاً نحو: طلحة، وسَمُرة، وسَلَمة، وقَتَادة، وهَراسة، كلُّ ذلك شجرٌ له شوكٌ، وعِضاهٌ. ومنها ما سمي بما غلُظ من الأرض وخشُن لمسُه وموطِئُه، مثل: حَجَر وحُجَير، وصَخْر وفِهر(10).
ولا شكَّ أن أي شيءٍ له علاقة بالطب يستهويني فأدقق فيه أكثر. وفي الطب البدائي القديم طرائف مسلية. منها ما ذكره ابن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار عن الحجارة أن من فوائد الحجارة في الطب القديم ما قاله أرسطاطاليس (أرسطو):
حَجرُ سنقيلا إذا رُبط على بطن صاحب الاستسقاء نَشَّفَ منه الماءَ .. وذاكرتُ بهذا رجلاً من علماء الأطبّاء فعرفه، وقال: هذا الحجر مذكور في التوراة. وحجر المغناطيس يَجذِبُ الحديدَ من بُعْدٍ وإذا وُضِعَ عليه عَلقَه، فإن دُلِكَ بالثُوم بطلَ عملُه.
ومِن الحجارة حصاةٌ في صورة النواة تَسبَحُ في الخل كأنها سمكة. ومنها خَرَزَة العُقْر إن كانت في حَقْو المرأة (خاصرتها) فلا تَحْبَلُ. وحجر يُوضع على حرف التنور فيتساقط خبزُ التنور كله(11)".
أما كيفية علاج مرض العشق الذي أعيا الأطباء حتى اليوم ففي ديوان الصبابة لابن حجلة وصفة طبية من الأحجار تساعد العاشق على السلو عن معشوقه:
"... وكذلك الحجر الموجود بعض الأوقات في أجواف الدجاج، إذا رمي في ماء وشربه العاشق سلا، وكذلك إن علق عليه أيضا،ً وكذلك حجر السلوان ومحكه باللبن، ومن علق عليه حجر اللقق وهو عاشق سلا، وإن كان حزيناً زال حزنه(12)".
وفي معاجم اللغة ذكرت السَّلْوَة والسُّلْوانة على أنهما خرزتان أو حصاتان لعلاج العاشق، وفي لسان العرب الخَرَزُ: فُصوص من حجارة، واحدتها خَرَزَةٌ. كما ذكر في لسان العرب: "السُّلْوانة حصاةٌ يُسْقَى عليها العاشِقُ الماءَ فيَسْلُو"(13).
ومن أبيات الشاعر جرير المشهورة(14):
يا لَيتَ ذا القَـلبَ لاقى مَن يُعَلِّلُهُ أَو ساقِياً فَسَقاهُ اليَومَ سُلوانا
وقال مجنون ليلى(15):
فخاض شراباً بارداً في زُجاجةٍ فخلّـط فيه سلوةً ودَنا لِيا
وقال بعضهم: السُّلْوانة بالهاء حصاةٌ يُسْقَى عليها العاشِقُ الماءَ فيَسْلُو؛ وأَنشد:
شَرِبْتُ على سُلْوانةٍ ماءَ مُزْنَةٍ فلا وَجَدِيدِ العَيْشِ، يا مَيُّ، ما أَسْلو(13)
ولقد أشرت إلى ذلك العلاج وما تعلق بالطب في قصيدتي حيث قلت:
أنا الطبيبُ فمن غيري يُطَبِّبُني إذا ابتُلـيتُ بعِشـقٍ فَتَّ في الحَجَرِ
يا مَنْ يُطَّـبِبُ عشَّـاقاً بأدوِيةٍ لا تسقني شربةً من سـلوةِ الحَجَرِ
كَسرُ العِظامِ لهُ جَبْـرٌ يُطبِّـبُهُ لا ينفعُ الجبرُ في كسرٍ من الحَجَرِ
كما تعرضت للحجر في العلوم والتاريخ واللغة والأدب والبيئة. ويذكر الجاحظ أن الظليم (ذكر النعام) يغتذي الصّخرَ، ويبتلع الحِجارةَ، ويعمد إلى المرْوِ، والمرْوُ من الحجارة التي توصف بالملاسة، ويبتلع الحصى، والحصى أصلب من الصَّخْر، ثم يُمِيعه ويذيبه في قانصته، حتَّى يجعله كالماء الجاري، ويقصدُ إليه وهو واثقٌ باستمرائه وهضْمه، وأنّه له غذاءٌ وقِوامٌ(2).
ومن الشواهد لأكل النعام الحصى والحجارة ما قال ذو الرُّمّة(16):
أذَاكَ أمْ خاضبٌ بِالسِّيِّ مرتعُهُ أبو ثَلاثــينَ أمْسى وهو منْقَلِبُ
ألهَاهُ آءٌ وَتَنُّــوم وعُقْـبَتُهُ مِنْ لائحِ المرْوِ والمَرْعَى له عُقَب
وقال أبو النَّجْم:
والمروُ يُلْقِيه إلى أمـعائه في سَرْطمٍ مَادَ على التوائهِ(2)
ثم ذكرت خواص القصيدة الحجرية نفسها، ومدحت الشعر العربي التراثي الذي انتهجت منهاجه في هذه القصيدة. ثم دافعت عن أبيات الغزل في بداية القصيدة التي لامني البعض على الإسهاب فيه وذكر مفاتن المرأة.
ولقد قرأت القصيدة خلال مراحل كتابتها الذي استغرق ثلاثة أسابيع على بعض الأصدقاء، وسمعت بعض مقترحاتهم ونقدهم، وأضفت أبياتاً بناءً على مقترحاتهم.
ولقد تكرم الأستاذ الجليل زهدي أبو خليل مشكوراً بنقد بناء ومقترحات قيمة، لما له من باع طويل في اللغة والنقد والأدب. فهو موسوعة لغوية متنقلة ويحفظ الكثير من الألفاظ اللغوية ومعانيها. كما أنه شديد التعصب للفصحى. ولقد رضخت لمقترحاته بتغيير ألفاظ خليجية قليلة وردت في القصيدة بألفاظ فصحى. وعندما حاولت إقناعه بأنها ألفاظ عربية سليمة وإن كانت غير معجمية أجاب: "إنا قبلنا منك تلك الألفاظ في "لامية الخليج" لأن ذلك من أهدافها ولا نقبلها في غيرها". ولكن لمّا اقترح علي تغيير لفظة "بقى" الخليجية لأنها في الفصحى "بقي" في البيت:
قد قلتُ شعراً بأيام الصبا فبقى أبقى من الوحي مخطوطاً على حَجَرِ
جادلته في الأمر وذكّرته بقصيدة ابن مالك الذي أجاز كلا اللفظين فوافقني بدون حماس.
والواقع الذي لا أنكره أن الألفاظ الخليجية تخرج بصورة عفوية في شعري، فإيحاؤها النفسي والفكري علي أعمق لأنها من بيئتي ونشأت عليها. وأنا أميل للمحافظة على التراثي منها في أشعاري مع شرحها ومقارنتها بالفصحى كما فعلت في لامية الخليج، ولكن يعارض ذلك الكثير من أصدقائي أيضاً محافظة على الفصحى.
أرجو الله أن يهدينا إلى الطريق القويم ويحفظ أمتنا ولغتنا وتراثنا العريق، وهو على كل شيء قدير.
الـشـاعـر 15-9-2004
مراجع المـقـدمة:
1. شرح ديوان كعب بن زهير – الدار القومية للطباعة والنشر –القاهرة، 1950.
2. الجاحظ: كتاب الحيوان – دار صعب – بيروت، 1982.
3. الثعالبي: التمثيل والمحاضرة.
4. الأبشيهي: المستطرف في كل فن مستظرف – دار المعرفة - بيروت، 2001.
5. الشملان، سيف مرزوق: تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي – دار السلاسل 1989- الكويت.
6. المعري، أبو العلاء: معجز أحمد، ج2، ص97 – دار المعارف – القاهرة 1984
7. المعري، أبو العلاء: معجز أحمد، ج1، ص348 – دار المعارف – القاهرة 1984
8. الأصبهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء – منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت.
9. الثعالبي: فقه اللغة وسر العربية 1972.
10. ابن دريد: الاشتقاق – مكتبة المثنى – بغداد 1979
11. ابن قتيبة: عيون الأخبار – دار الكتب العلمية – بيروت، 1986.
12. ابن حجلة: ديوان الصبابة – دار ومكتبة الهلال – بيروت، 1984.
13. ابن منظور: لسان العرب – دار المعارف – القاهرة.
14. ديوان جرير – دار صادر.
15. يوسف فرحات: ديوان مجنون ليلى - دار الكتاب العربي – بيروت 1999.
16. ديوان ذي الرمة – دار الكتاب العربي- بيروت 1993.