top of page

ذكرت في الحلقات السابقة موجزاً عن أعراض مرض الشاعر بدر شاكر السياب التي ذكرها في شعره والآن وكما وعدت القارئ فإنني سأفصل في الحلقات القادمة معانات الشاعر أعراض المرض كما وصفها في أشعاره.

النحول:

 فأول ما يراه الزائر لمريض مصاب بمثل هذا المرض هو نحول جسم المريض وهزاله. والسبب الطبي للنحول هو تحلل عضلات الجسم وتلفها. وتلف العضلات يسبب فقد المريض القدرة على الحركة. ومما يزيد الأمر سوءاً أن أي عضلة في جسم الإنسان لا تستعمل لأي سبب كان، يصيبها الضعف والنحول وهو ما يطلق عليه في الطب "نحول عدم الاستعمال"Disuse atrophy". أي أن خلايا العضلات التي لم تتلف يصيبها النحول والضمور أيضاً لعدم القدرة على استعمالها.

فقبل نهاية عام 1961 تحول شاعرنا بدر شاكر السياب إلى شبح ناحل شديد الهزال وقد وُصف عندما ذهب إلى روما لحضور مؤتمر الأدب العربي المعاصر 16-20 أكتوبر 1961 بأنه شوهد في روما " جلد على عظام .. يمشي متأرجحاً بخطوات يجرها على الأرض جراً ثقيلاً يتعثر منه بقدميه فيكاد يسقط على الأرض في كل خطوة" (1).

 وقد ذكر الشاعر نحوله وهو في البصرة في قصيدة (المعبد الغريق) 17/2/1962 يصف نحول يده وغياب اللحم عن أصابعه:

ويا لصدىً من الساعات

بالأكفان مسَّ رؤوس أطفالِ

وفلَّ عناقَ كل العاشقين

ودسَّ في القبلة مدىً من حشرجات الموت

ردَّ أصابع الأيدي

أشاجع غاب عنها لحمها

وستائر الكلّة (11).

وإن لم يكن المريض الأمريكي إيرلي (الذي ذكرته في الحلقة السابقة) شاعراً إلا أنه استطاع أيضاً أن يعبر عما اعتراه تعبيرا جيداًً. فبعد أن نحل جسمه وبانت أشاجع يده مثلما بانت أشاجع يد السياب ، كان يرفع يده ويقول: "يدي قبيحة , قبيحة جدًّا الآن .. لحم راحة اليد قد ذهب، الجلد مشدود على الأوتار التي تمسك الأصابع (الأشاجع).. قريبًا سأكون عظاماً بلا لحم يكسوه" (20).

أما بدر فقد عبر عن نحوله بعد عودته من روما في قصيدة (دار جدي) بأن جسمه يذوب فلم يبق منه إلا ما يبقى خرائب البيوت البالية:

 

وحين تقفر البيوت من بُناتها وساكنيها

نحس كيف يسحق الزمان إذ يدور

غداً أموت

ولن يظل من قواي

ما يظل من خرائب البيوت

أفيق أجمع الندى من الشجر

في قدح ليقتل السعال والهُزال

أهكذا السنون تذهب؟

أهكذا الحياة تنضب؟

أحس أنني أذوب، أتعب

أموت كالشجر  (11).

 ولبدر قصيدة سماها (المعول الحجري)، ومع أني أعترف للقارئ بأنني لست خبيراً برموز الشعر الحديث الغامضة إلا أني أعتقد أن السياب يرمز بذلك للمرض الذي أصابه كأنه معول حجري يمزقه، فهو يحس به في نبضه ويزحف نحو أطرافه. وهو يعلم أن النتيجة أن يده ستضمر وسيعجز عن الكتابة حيث قال:

لأكتب قبل موتي

أو جنوني أو ضمور يدي

من الإعياءْ

خوالج كل نفسي 
ذكرياتي

كل أحلامي وأوهامي (14). 

الرعشة: 

والرعشة مثل نحول الجسم تبرز وتظهر على المريض بوضوح لأنها جزء رئيسي من أعراض المرض. فالمرض يدمّر خلايا الأعصاب التي تتحكّم في حركة العضلات. وعندما تموت كلّ خلية عصبية (نيورون) فإنها تطلق نبضة كهربائيةً تسبّب ارتعاشاً في حزمة العضلة. فتحدث عدة ارتعاشات صغيرة في وقت واحد.

وعندما يكتب الشاعر شعراً صادقاً فهو يعبر عما يختلج في خاطره من مشاعر وما يحس به من ألم عضوي أو نفسي. لذلك كانت الكلمات الدالة على أعراض مرض السياب تطفح في أشعاره وتبرز في قصائده بمناسبة أو غير مناسبة، بقصد أو بدون قصد، لأن الألفاظ الدالة على ما يعانيه قد طغت على كل جوارحه. فالشاعر الذي يعيش في جو قصيدته مثل النائم الذي إذا انكشف الغطاء عن رجله فتعرضت للجو البارد حلم أنه أدخل رجله في ماء بارد. فالحلم في هذه الحالة خيال يراه النائم نتج عن إحساس عضوي آني. وكذا الشاعر يحس فيعبر عن إحساسه بكلمات متأثرة بإحساسه.

وفي روما أحس السياب بالغربة فكتب (حنين في روما) بدأها بالغزل وهو الفاقد لقواه الجنسية بسبب المرض، ولكنه وهو يكتب القصيدة كان يحس بالرعشة والرجفة في يده ورجله فاثر ذلك الإحساس في اختياره للكلمات: 

 

يتثاءب جسمك في خلدي

فتجنُّ عروقْ

عريان تزلَّقَ في أبدِ
تُنهيه الرعشة

فهي شروق

 

ويشاهد الرعشة أو الرجفة في عضلات جسمه فيصفها بصحراء من الدم، وكأن الرعشاتِ أمواجٌ فيها، حيث قال وكأنه يهذي:

 

من جوع صغاركَ يا وطني

أشبعت الغرب وغربانه

صحراء من الدم تعوي

ترجف مقرورة

ومنازل تلهث أواها

ومقابر ينشج موتاها

 

وعندما قلت وكأنه يهذي فلا أقصد التقليل من شأنه ولكني أقصد أنه ربما كان مصاباً بالحمى وهو يكتب بعض قصائده، وقد تسبب الحمى عدم التركيز الذهني والهذيان بسبب ارتفاع درجة حرارة الدماغ. فهو عندما ذكر الغرب قفزت له كلمة الغربان وهي رمز للبين والفراق والتشاؤم وعندما ذكر الصحراء ذكر عواء الذئاب المفترسة وكأنها ستقضي عليه فإلى أين يفر إذا كانت المنازل تركض من الذئاب لاهثة، والمقابر تبكي على موتاها. هكذا حاولت أن أفهم معنى الأبيات التي يصعب علي إدراك الترابط بينها.

نعود إلى موضوع الرعشة وقد وصفها لنا المريض الأمريكي المذكور أعلاه وصفاً دقيقاً وبليغاً جداً قد لا يماثله شعر أو نثرٌ. فقال إيرلي إنه عندما كانت فخذاه تحت سيطرة هجوم الرعشات، " ظهرت الارتعاشات في فخذي مثل سطح البحر الغاضب ". أي أنها كالأمواج.

فكلا المريضين نظر إلى الارتعاشات في جسمه واعتبرها مثل الموج في مكان لا يسر، فشاعرنا السياب اعتبرها أمواجاً في صحراء من الدم، ليدلل على غضبه وكراهيته لها، أما المريض الأمريكي الذي لم يسمع بالشعر العربي الحديث وغموضه، قال ببساطة كأنه موج في بحر غاضب.

ففي البداية كان ذلك الارتعاش يذهل إيرلي ويبهره تمامًا، وكان يتذكّر "أنه يشاهد في العضلة ارتعاشاً .. ارتعاشاً .. ارتعاشاً.. و ثمّ تموت العضلة .. وقال: "استغرق الأمر سنة حتى سُلبت رجلي منّي عضلة.. عضلة".

 

وظهرت كلمات الرعشة والرجفة في قصائد أخرى لبدر وخاصة في مقطوعات (سفر أيوب) التي كتبها وهو في لندن والتي اعتبر فيها معاناته الشخصية وصبره مثل معاناة أيوب وصبره. ففي قصيدة (سفر أيوب رقم 2) كان بدر يخاطب زوجته ويتخيل ابنه غيلان المقبل على اليتم. فيقول هل سمعتِ كيف أصابت ضلوعي الرعشة عندما دق القدر بابنا بالمصيبة؟:

 

أسمعُ غيلانَ يناديك من الظلام

من نومه اليتيمِ في خرائب الضجر

سمعتِ كيف دق بابنا القدر؟ 
فارتعشتْ على ارتجاف قرعه ضلوع؟

ورقرقت دموع؟

فاختلس المسافر الوداع وانحدر

 

والمتمعن في القصيدة القصيرة أعلاه يجد أنها تزخر بألفاظ تدل على شعور مفعم بالحزن لدى الشاعر مثل: الظلام، اليتيم، الضجر، الخرائب، الدموع والوداع. 

 

 وفي (سفر أيوب رقم 4) التي كتبها في 29-12-1962 قال:

 

إني سأشفى

سأنسى كل ما جَرَحا

قلبي

وعرّى عظامي، فهي راعشةٌ

والليل مقرورَ

وسوف أمشي إلى جيكور ذات ضُحى !  (7)

 

وفي (سفر أيوب رقم 8) المؤرخة في 2-1-63 قال:

مريضاً كنتُ

تُثقل كاهلي والظهرَ أحجارُ

وساوسُ مظلماتٌ غابت الأشياءُ

ورعشة خافقي

وأنين روحي يملأ الحارة

بأصداء المقابر  (7).

وقد تكرر ذكره للرجفة والرعشة في قصائده أثناء المرض لأن أعراض المرض طغت على مشاعره فلم يستطع أن يتجاهلها أثناء كتابته للشعر ففي قصيدة (رسالة) التي كتبها على سرير الموت يوم 9-7-64 في الكويت قال:

رسالة منكِ كاد القلب يلثمها     

لولا الضلوع التي تثنيه أن يثبا

لكنها تحمل الطيب الذي سكرت 

روحي به ليل بتنا نرقب الشهبا

جاءت لمرتجف

على السرير،

وراء الليل يحتضرُ ...

 سفينة يشتهي ظلها النهَرُ

فيها الشفاءُ هو الربان،  والقدرُ

فيها المغني لكن

مما عراه الداء ينتحرُ  (14).

 

وفي الحلقة التالية سأواصل ذكر الأعراض التي كان يشكو منها بدر شاكر السياب وما كان يعانيه من ألم ويأس.

 المراجع:

1. بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره: إحسان عباس (1983). 
2. إقبال: بدر شاكر السياب. 
3. رسائل السياب: ماجد السامرائي. 
4. قيثارة الريح: بدر شاكر السياب. 
5. البواكير: بدر شاكر السياب. 
6. أعاصير: بدر شاكر السياب. 
7. منزل الأقنان: بدر شاكر السياب. 
8. بدر شاكر السياب حياته وشعره: عيسى بلاطة (1987). 
9. قيثارة الريح: بدر شاكر السياب. 
10. الهدايا: بدر شاكر السياب. 
11. المعبد الغريق: بدر شاكر السياب. 
12. بدر شاكر السياب ج1 ص19: إيليا حاوي. 
13. أزهار وأساطير: بدر شاكر السياب. 
14. إقبال وشناشيل ابنة الجلبي: بدر شاكر السياب. 
Solomon: Handbook of Psychiatry.15 
16. شعر بدر شاكر السياب: حسن توفيق. 
K. Kiple: The Cambridge World history of Human Disease.17. 
Harrison’s: Principles of Internal Medicine 14th Edition.18. 
19. ديوان بدر شاكر السياب: ج2 ناجي علوش 
http://www.projo.com/special/noel/main.htm      A Time to Die.20 :

bottom of page