السياب والسل:
لقد ذكرت في الحقلة الأولى إني كنت أظن أن السياب مات بمرض السل ولكن وجدت فيما بعد أنه مات بمرض يصيب الأعصاب (ALS). والمفاجأة الغريبة لي أني خلال قراءتي لقصائد السياب اكتشفت أنه أصيب بالسل فعلاً وهو في عز الشباب وبرئ منه. وحيث إن إصابته بمرض السل لم تذكر من قبل في الكتب التي قرأتها عن حياة السياب فلا بد أن أثبت للقارئ تشخيصي في هذه الحلقة مستدلا بأشعاره وسيرته.
قد لا يدرك الناس أن السل من أقدم الأمراض التي أصابت الإنسان، وقد اتضح ذلك من دراسة العظام الأثرية المكتشفة، وصور الأشعة لموميات فرعونية. وقد لا تظهر على المصاب أعراض تمنعه من العمل والذهاب والإياب، فيختلط بالناس وينقل العدوى بدون أن يعلم الناس أنه مصاب. فيجوز أن يكون السياب يعلم أنه مصاب بالسل، ولكنه كتم أمر المرض، ولم يبح إلا في الشعر الذي يمكن أن يحتفظ به لنفسه. وفي السنة التي أصيب فيها بالمرض (1948) كان العلاج الناجع للسل متوافراً في الغرب ولا أدري إذ كان وصل العراق آنذاك أم لا. فأول علاج ناجع للسل (ستربتومايسن) كان قد اكتشف سنة 1944 ثم تلاه سنة 1946 اكتشاف دواء آخر (بارا أمينو سيليسلك أسد PAS). فلا يستبعد أن السياب قد عولج به. كما أنه من المعروف أن بعض المصابين يتعافون من السل بدون علاج، وقد لا يعرف أن الشخص أصيب بالسل إلا بالصدفة عند أخذ صورة أشعة أو تشريح الجثة بعد الوفاة (17).
كان السياب معرضاً للإصابة بمرض السل للأسباب الطبية التالية:
1. لقد قرأت أن عند عائلة السياب استعداداً خاصاً للسل، لأن خاله تُوفي بالمرض، ولأن عمة له أصيبت به (1). والمعنى الطبي لهذا "الاستعداد" هو وجود المرض في العائلة، وتنتقل العدوى بين أفراد العائلة، حيث إن جرثومة السل شديدة العدوى. وليس هناك دليل علمي على أن بعض الناس لهم استعداد وراثي لهذا المرض، ولكن قد يكون للبعض قدرة على مقاومة المرض أكثر من بعض (18).
2. كما أنه واضح لدي من سيرته أن نحافته الشديدة وفقر دمه ناتجان عن نقص التغذية. وأن نقص التغذية يضعف حصانته الجسمية لمقاومة جرثومة السل. ومرض السل غالبا ما يفتك بالفقراء وذوي الحصانة الضعيفة مثله.
3. كان السياب مدخناً، ولقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن التدخين يضعف حصانة الجسم ضد الجراثيم المعدية مثل السل.
4. لقد كان مسرفاً في شرب الخمور، والشرب المزمن للخمور يضعف الحصانة الجسمية أيضاً.
5. قد يكون هزاله وفقر دمه في 1948 ناتجين عن مرض السل نفسه أو أن مرض السل زاد نحوله وفقر دمه سوءاً. وبعد حصوله على راتب 50 ديناراً شهرياً في أواخر السنة نفسها، زال شحوبه وكسا عظمه اللحم كما ذكرنا سابقاً، إما لأنه استطاع أن يشتري طعاماً أفضل أو عولج وشفي من مرض السل.
هل يمكن أن يعاشر الناس مسلولاً ولا يكتشفون أنه مصاب بالمرض؟ الجواب: نعم لأن أعراض السل في البداية تشابه أعراض أمراض أخرى التي تصيب الرئة. وقد يكتشف السل بالصدفة عند أخذ أشعة صدر لسبب آخر. لكن الحمى والسعال يظهران على أغلب مرضى السل. أما وجود الدم في بلغم المسلول فإنه يدل على تقدم المرض.
فقد أصاب السل الرئوي السياب سنة 1948 عندما كان في الثانية والعشرين من عمره. وهذا متفق مع ما هو معروف طبياً أن الفترة النهائية من المراهقة وأوائل فترة الرجولة أكثر عرضة للإصابة بالسل (18). والواضح أن بدراً الذي عرف السل من مشاهدته للمسلولين في عائلته، أدرك أن الأعراض التي تعتريه من سعال وضيق تنفس ودم في البلغم هي أعراض مرض السل. وقد يكون المرض قد انتقل إليه من أحد أفراد عائلته مثل خاله الذي حزن عليه عندما قتله السل. ولقد أقلق السعال المزعج السياب وأخافه نزول الدم في البلغم، وضيق التنفس جعله يشعر بقرب أجله، فكتب قصيدة (رئة تتمزق) يصف معاناته السل:
الداءُ يثلجُ راحتيَّ ويطفئ الغد في خيالي
ويشلّ أنفاسي ويطلقها كأنفاس الذبال
تهتز في رئتين يرقص فيهما شبح الزوال
مشدودتين إلى ظلام القبر بالدّم والسعال.
واحسرتاه ! كذا أموت كما يجف ندى الصباح؟
يا للنهاية حين تسدل هذه الرئة الأكيل
بين السعال على الدماء، فيختم الفصل الطويل
30/2/1948 (13)
ولكن الذين كتبوا عن سيرته لم يعرفوا أنه أصيب بالسل، بل فسر بعضهم أن شكواه من السعال والدم يدل على أنه "تقمص شخصية مسلول بعد أن مات خاله بالسل" (1)، أو أنه توهم أو "تخيل أنه مصاب بالسل" (8). ولكني لا أصدق تلك التفاسير الغريبة والمناقضة لما هو واضح من سيرته وقصيدته، بل كان بالفعل مصاباً يخاف من أن يقضي عليه السل آنذاك ويبعده عمن أحب، فقد ذكر في نفس القصيدة أنه يخاف من الموت الذي كان يتمناه من قبل!
يا موت يا رب المخاوف والدياميس الضريرة
اليوم تأتي من دعاك؟ ومن أرادك أن تزوره؟
أنا ما دعوتك أيها القاسي فتحرمني هواها،
دعني أعيش على ابتسامتها وإن كانت قصيرة.
ثم عاوده القلق وتقلب بين الرجاء من الشفاء واليأس منه فقال:
لا سوف أحيا سوف أشقى
سوف تمهلني طويلا،
لن تطفئ المصباح..
لكن سوف تحرقه فتيلا،
في ليلة في ليلتين .. سيلتقي آهاً فآها،
حتى يفيض سنا النهار فيغرق النور الضئيلا.
ولكن هاجس الخوف من الموت بمرض السل الذي هدّ صدره يخيفه وهذا الخوف سيتكرر بصورة أشد عندما يمرض بالمرض العضال بعد ذلك بثلاث عشرة سنة. ولكنه يفكر من الآن في القبر المظلم الذي سيدفن فيه بعد أن تخرج روحه كأسير ينفلت:
والحفرة السوداء تفغر بانطفاء النور فاها،
إني أخاف.. أخاف من شبحٍ تخبئه الفصول
من صدري المهدوم حشرجة فتحترق العطور،
تحت الشفاه الراعشات
ويطفأ الحقل النضير،
شيئاً فشيئاً.. في عيوني
ثم ينفلت الأسير
30/2/1948 (13)
وفي سنة 1952 عندما تم إلقاء القبض على بعض الشيوعيين، فر بدر من العراق إلى الكويت عن طريق إيران وفي الكويت نزل على جماعة من الشيوعيين العراقيين. وامتلأ المنزل بساكنيه إذ أصبح عددهم ثمانية، ومن بين نزلاء البيت ثلاثة مصابون بالسل ، وقد وُكل إلى بدر القيام بأعمال الكنس وغسل الآنية وإعداد الأسرة وتحضير الشاي والطعام. فكان بدر يعتني بالمسلولين ولم تصبه العدوى منهم، مع أن كلام المسلول وسعاله يرسل في جو الغرفة التي يعيش فيها خلايا الرذاذ المشبع بجرثومة السل، والتي تقدر بثلاثة آلاف خلية معدية تنتج عن كل سعلة (18). ويمكن لذلك الرذاذ المعدي أن يجف ويبقى معلقاً في هواء الغرفة عدة ساعات، قابلاً لإصابة المستنشقين. ولكن السياب الذي اعتنى بالمسلولين لم يصب بالمرض آنذاك لأن مناعته ضد السل التي اكتسبها من إصابته السابقة حمته من عدوى الجرثومة. وهذا دليل آخر على إصابة سابقة بالمرض، حيث إن الإصابة بالسل تعطي المصاب بعض الحماية ضد المرض عند التعرض مرة أخرى .
ونحافة بدر وتاريخه الشخصي والعائلي تحتم على الأطباء التفكير في السل عندما يكشفون عليه لأول مرة. وهكذا فعل الطبيب البريطاني د. (إدوارد دز) المختص بالأعصاب في 5/2/1963 عندما أجرى الفحوص الطبية على بدر في مستشفى (سانت ماري) في لندن لاستبعاد تدرّن فقاري كسبب لشلله (8). ولكن الصور لم تثبت ذلك.
على أي حال لا شك عندي أن السياب أصيب بالسل كما أوضحت أعلاه، ولكن لا علاقة للسل بوفاته، وسأتطرق إلى المرض الذي قتله بالتفصيل في الحلقات القادمة إن شاء الله.
المراجع:
1. بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره: إحسان عباس (1983).
2. إقبال: بدر شاكر السياب.
3. رسائل السياب: ماجد السمرائي.
4. قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.
5. البواكير: بدر شاكر السياب.
6. أعاصير: بدر شاكر السياب.
7. منزل الأقنان: بدر شاكر السياب.
8. بدر شاكر السياب حياته وشعره: عيسى بلاطة (1987).
9. قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.
10. الهدايا: بدر شاكر السياب.
11. المعبد الغريق: بدر شاكر السياب.
12. إيليا حاوي: بدر شاكر السياب ج1 ص19
13. أزهار وأساطير.
14. إقبال وشناشيل ابنة الجلبي.
15. Solomon: Handbook of Psychiatry
16. شعر بدر شاكر السياب: حسن توفيق.
17. K. Kiple: The Cambridge World history of Human Disease
18. Harrisons: Principles of Internal Medicine 14th Edition