top of page

أعراض عشق قيس بن الملوح

المقصود بالأعراض في المصطلح الطبي، علامات أو مؤشرات تدل على الإصابة بمرض، تظهر على المريض أو يحس بها، خارجة عن المألوف أو الوضع الطبيعي المعتاد. أما في اللغة فعَرَضَ الشيءُ: ظهرَ وبدا ولم يدم، والعارض: خلاف الأصلي والجوهري والثابت. والعَرَض: جمعه أعراض: اسمٌ لما لا دوام له. يقال هذا الأمرُ عرَضٌ أي عارضٌ زائلٌ(1). فالأعراض: جمع عَرَض والعَرَضُ في اللغة أيضاً: ما عَرَضَ للإِنسان من أَمر يَحْبِسهُ. وعَرَضَتِ الناقةُ أَي أَصابها كسر أَو آفة(2).

وقد أدلى مجمع اللغة العربية بدلوه في هذا فقال العرَض: ما يطرأ ويزول من مرض ونحوه. وأقر المجمع اللغوي المعنى الطبي الحديث للأعراض قائلاً هي: ما يحسه المريض من الظواهر الدالة على المرض(3).

 

الأعراض العامة للعشق:

لقد قرأت أعراض العشق التي ذكرها الأطباء عبر العصور. ثم تمعنت في أشعار المجنون قيس بن الملوح بدقة، فوجدت أشعاره زاخرة بأعراض العشق المذكورة في آداب الطب، يكرر المجنون ذكرها، ويشتكي منها بمرارة مؤثرة في أغلب قصائده طَوال حياته. فتصرفاته وأعراض مرضه تجسيدٌ وأمثلة واضحة وصادقة لأعراض العشق المذكورة في آداب الطب العربي والأجنبي خلال قرون عديدة سبقت عصره وقرون تلته.

لقد اعتبر الأطباء اليونانيون العشق داءً، وذكروا له أعراضاً مثل:

شدة القلق وكثرة السهر، والعزوف عن الأكل والشرب. وقالوا إنه قد يصاب العاشق بالجنون وربما قتل نفسه، وإن العاشق إذا سمع بذكر من يحب يهرب دمه ويستحيل لونه(4).

أما الأطباء العرب والمسلمون، مثل ابن سيناء، فقد تأثروا بالطب اليوناني في وصف العاشق وأعراض العشق، فذكروا الهمّ والغمّ والحزن والبكاء والهزال وذل النفس وكثرة السهر وتغير النبض عند ذكر الحبيب. وقالوا إن الحزن قد يقضي على العاشق المهزول(5)

وأكد ابن النفيس اختلاف النبض وتغير لون وجه العاشق عند ذكر الحبيب. كما أضاف إلى ذلك كثرة السهو وتنفس الصعداء(6).

أما الطب النفسي الحديث، فاعتبر العشق مرضاً نفسيًّا قد يقود العاشق إلى الجنون(7).

 ومن أعراض العشق في الطب النفسي الحديث: الحزن واليأس وقلة الانتباه وضعف الإدراك، وعدم التركيز وعدم الوضوح في التفكير، واضطراب المشاعروالرغبة في العزلة، والشعور بالإذلال والأسى، والشك في جدوى الحياة أو الرغبة في الموت(8).

 

كما يشعر العاشق بالكآبة والقلق والتلهف والتوق الشديد للمحبوب، وقد يبعُد في تصرفاته عن الواقع، وقد يصاب بنوبة من الغضب. فغالبية العشاق مسالمون، والقليل جدًّا منهم من يُضطر إلى العنف والرغبة في العدوان(9).

 

أعراض العشق التي اشتكى منها مجنون ليلى:

لقد لوحظ على قيس بعض الأعراض، مثل النحول والهزال والإغماء وشرود البال والجنون، ولكن لأن دراستنا هنا قائمة على الأشعار فإن الأعراض التي أحس بها قيس وأخبرنا عنها بأبيات حزينة ورقيقة هي ما سنستعرضها في هذا الفصل. ولا شك أن شدة شوق المجنون وغرامه بليلى أمرضه، فاشتكى من دوام المرض والوجع ولزومه لبدنه وقلبه:

 

إِلَيكَ  عَنِّيَ إني هائِمٌ  وَصِبُ       أَما تَرى الجِسمَ قَد أَودى بِهِ العَطَبُ

لِلَّهِ قَلبِيَ  ماذا  قَد أُتيحَ  لَه؟ُ       حَرُّ  الصبابَةِ  وَالأَوجاعُ  وَالوَصَبُ

 

ولمّا استعرضت أشعار المجنون لاختيار ما يدل على أعراض عشقه، وجدته قد كرر شكواه من نفس الأعراض مراراً في أشعاره، ولكني لم أجد تكراره مُملاًّ، بل ممتعاً، لأنه صاغ الأشعار المكررة بألفاظ وبحور وقوافٍ مختلفة، وتشبيهات شعرية رائعة وجذابة. والسبب في تكراره لها، أنه وجد راحة نفسية في ترديد أشعار الشكوى. فهي بمثابة التنفيس لضغط المشاعر النفسية القاسية التي كان يحس بها. أي إنه وجد الأشعار علاجاً يتداوى بها لتخفيف أحزانه وآلام دائه ومصائبه. فهي علاج يسهل تناوله في أي مكان وزمان. وهذا ليس استنتاجاً من تحليلي لشخصية الشاعر من خلال أشعاره فحسب، بل ذلك هو استنتاج قيس نفسه أيضاً، حيث قال:

 

فَما أُشرِفُ الأَيفاعَ إلاّ صَبابةً       وَلا أُنشِدُ الأَشعارَ إلاّ تَداوِيا

 

من هذا البيت تتضح أهمية الأشعار للعشاق العذريين أمثال قيس، الذين لم يجدوا علاجاً لمرض الهوى، لأنه مرضٌ استعصى علاجه فعجز عنه الطبيبُ كما قال قيس:

وَما بِيَ إشراكٌ وَلكِنَّ حُبَّها       وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا

فلم يبقَ للعاشق المتيم المجنون بمعشوقه، المحروم من الوصال، مثل قيس بن الملوح، إلا التأسي بالأشعار، والتنفيس عن النفس بوصف ما يحس به من أعراض العشق التالية:

1) الضيق والحزن والكآبة:

لقد لخص المجنون إحساسه بالكآبة والحزن في بيتين:

 

أَلا فارحَمي صَبًّا كَئيباً مُعَذَّباً       حَريقُ الحَشا مُضنى الفُؤادِ حَزينُ (أ)

قَتيلٌ مِنَ الأَشواقِ أَمّا  نَهارُهُ       فَبــاكٍ   وَأَمّا      لَيلُهُ     فَأَنــينُ

 

وأكد أن الكآبة في قلبه:

وَقَلبي كَئيبٌ  في هَواها  وَإِنَّني       لَفي  وَصلِ لَيلى ما حَيِيتُ لَطامِعُ

وقال:

وَأُمطِرُ في التُرابِ سَحابَ جَفني       وَقَلبي  في  هُمومٍ  وَاكتِئابِ

 

وسيلاحظ القارئ أن أشعار قيس مع رقتها المؤثرة، تندر فيها الألفاظ المعجمية الصعبة، بل إن أغلبها ألفاظ سهلة وواضحة، لا تحتاج إلى شروح مطولة ولا معاجم كبيرة إلا نادراً. ولكني تعمدت شرح بعض الكلمات تسهيلاً لبعض زملائي من الأطباء الذين درسوا في مدارس أجنبية ولا يقرؤون كتب الأدب العربي.

وكرر المجنون شكواه مما يعتريه من كآبة. والكآبة أخطر المشاعر النفسية وأقساها على الإنسان، لأنها تؤدي أحياناً لأن يقتل المرء نفسه للتخلص من عذابه:

 

فَإِن تَزجُريني عَنكِ خيفةَ كاشِحٍ       بِحالي فَإِنّي ما عَلِمتِ كَئيبُ (ب)

وقال:

بِحاجةِ مَحزونٍ كَئيبٍ فُؤادُهُ       رَهينٌ بِبَيضاتِ الحِجالِ صَديقُ (ت)

وقال إن الذين يلومونني لم يحسوا ما أحس به، وليس فيهم كئيب مثلي:

 

كَثيرٌ  مِنَ  العُذّالِ  ما  يَترُكونَني       لَعَمرُكِ ما في العاذِلينَ كَئيبُ

يَقولونَ لَو خالَفتَ قَلبَكَ   لارعَوى       فَقُلتُ  وَهَل لِلعاشِقينَ  قُلوبُ (ث)

وقال:

فَيا لَيلَ جودي بِالوِصالِ فَإِنَّني       بِحُبِّكِ رَهنٌ وَالفُؤادُ كَئيبُ

وعما يحس به من ضيق قال:

وَكادَت  بِلادُ  اللهِ  يا أُمَّ  مالِكٍ       بِما رَحُبَت مِنكُم  عَلَيَّ تَضيقُ

وقال:

وبالجزعِ من أعلى الجنيبة منزلٌ        شجا حَزَنٍ صدري به مُتَضايقُ

وقال إن السقم ملازم له، أما الحزن فإنه يتجدد ويعاوده باستمرار:

أَرى سَقَماً في الجِسمِ أَصبَحَ ثاوِيًا       وَحُزناً طَويلاً رائِحاً ثُمَّ غادِيا

2) شدة الشوق للمحبوب والهُيام والصبابة:

نبضات قلب الإنسان وتنفسُه من زفير وشهيق يتأثران بالحالة النفسية، وقد ذكرنا سابقاً أن اضطراب التنفس واختلال دقات القلب، من أعراض العشق، وقد قال المجنون:

إِذا ذَكَرَتها  النَّفسُ  ماتَت  صَبابةً       لَها  زَفــرةٌ  قَتّالةٌ  وَشَهيقُ

 

وقال:

عَلى أَنَّني لَو شِئتِ هاجَت صَبابَتي       عَلَيَّ رُسومٌ عَيَّ فيها التَناطُقُ

وادعى أن أعداءه لو عرفوا شدة حبه وشوقه لليلى لرقوا وبكوا من أجله:

وَبي مِن هَوى لَيلى الَّذي لَو أَبُثُّهُ       جَماعَةَ أَعدائي بَكَت لي عُيونُها

وقال إن حبه يزداد بمرور الأيام:

تَمُرُّ الليالي  وَالشُّهورُ  وَلا أَرى       غَرامي  لَكُم  يَزدادُ  إلا  تَمادِيا

واعتبر عشقه وهيامه بها مرضاً لم يسلط إلا عليه:

بِيَ اليَومَ داءٌ لِلهُيامِ أَصابَني       وَما  مِثلُهُ  داءً  أَصابَ  سَوائِيا

 

3) الأرق والسهر:

ويؤرّق قيساً الحبُّ بينما ينام الذين يلومونه في حب ليلى:

وَكَيفَ أُسَلِّي النفسَ عَنها  وَحُبُّها       يُؤَرِّقُني  وَالعاذِلونَ  هَواجِعُ؟

فليله يطول، ودموعه تسيل، وشوقه لليلى وغرامه بها يشتد، وقد نَفِدَ صبره فاشتكى من الوحدة الموحشة والسهر المضني، بينما يغط الناس في نوم عميق:

 

لَقَد  طالَ  لَيـلي  وَاستَهَلَّت مَدامِعي           وَفاضَت جُفوني وَالغَرامُ يَزيدُ

أُكابِدُ    أَحزاني    وَنـاري   وَحُرقَتي           وَوَصلُكِ  يا  لَيلى أَراهُ  بَعيدُ

لَقَد عيلَ صَبري مِن غَرامي وَوَحدَتي           وَعُظمِ اشتِياقي هائِمٌ  وَوَحيدُ (ج)

فَهَل مُسعِدٌ لي في الَّذي قَد أَصابَني           وَفي سَهَري وَالعالَمونَ رُقودُ؟

ويتعجب من قدرة ليلى على النوم الذي لم يذقه:

عَجِبتُ لِلَيلى كَيفَ نامَت وَقَد غَفَت       وَلَيسَ لِعَيني  لِلمَنامِ سَبيلُ

وقال لها:

سَلي الليلَ عَنّي  هَل أَذوقُ رُقادَهُ؟       وَهَل لِضُلوعي مُستَقَرٌّ عَلى فَرشي؟

فإذا كانت الهموم هي التي تشارك الإنسان سريره وفراشه فلا سبيل إلى النوم:

يَبيتُ ضَجيعَ الهَمِّ ما يَطعَمُ الكَرى       يُنادي إِلهي  قَد لَقيتُ  الدَّواهِيا (ح)

 

4) الهزال والنحول:

ذكر ابن منظور في لسان العرب: سمي العاشِقُ عاشِقاً لأَنه يَذْبُلُ من شدة الهوى كما تَذْبُل العَشَقةُ إذا قطعت، والعَشَقَةُ: شجرة تخضرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ(2).

 فالهموم والأحزان التي تسبب الأرق، تصد النفس عن الأكل، وتسبب للعاشق نحولاً في الجسم. وعبر المجنون عما أصابه من نحول بسبب حبه، وما جلبت عليه همومه من أرق وحسرات قائلاً:

 

أَنا الوامِقُ المَشغوفُ وَاللهُ ناصِري       وَمُنتَقِمي مِمَّن يَجورُ وَيَظلِمُ (خ)

أَنا الناحِلُ  المَهمومُ  وَالقائِمُ الَّذي       أُراعي الثُرَيّا وَالخَلِيّونَ  نُوَّمُ (د)

أَظَلُّ   بِحُــــزنٍ    دائِمٍ    وَتحَسُّرٍ       وَأَشرَبُ كَأساً فيهِ سُمٌّ وَعَلقَمُ

 

ولقد جمّع لنا المجنون عدة أعراض للعشق، كالبكاء والسهو والنحول والذل والأرق في بيت واحد من البيتين التاليين:

لَيسَ يَخلو أَخو الهَوى أَن  تَراهُ       كُـلَّ  يَومٍ  يُلامُ   أَو  يَتَرَضّى

باكِياً   ساهِياً   نَحـيلاً   ذَليلاً       لَيسَ يَهدا وَلَيسَ يَطعَمُ غَمضا

وقال إن الحب هو الذي أنحل جسمه وبرى لحمه:

وَشاهِدُ وَجدي دَمعُ  عَيني وَحُبُّها       بَرى اللحمَ عَن أَحناءِ عَظمي وَمَنكِبي (ذ)

وكرر ذلك قائلاً:

بَرى حُبُّها جِسمي وَقَلبي وَمُهجَتي       فَلَم يَبقَ إلاّ أَعظُمٌ وَعُروقُ

وعبر عن شدة هزاله قائلاً:

وَلَم  يَبقَ إلاّ الجِلدُ  وَالعَظمُ  عارِياً       وَلا عَظمَ لي إن دامَ ما بي وَلا جِلدُ

 

ولام ليلى على ما أصابه من النحول، وادّعى أنها حولته عظماً بلا لحم, وأن عظامه المخصّرة (أي الدقيقة)، والمعرّقة (أي الخالية من اللحم)، أصبحت مفرغة من مخِّها تصفر فيها الريح كالقوارير. وادعى لو أن ليلى تأخذ بيده وتساعده على النهوض لاكتشفت ما كان يخفيه من هزال ونحول:

 

سَلَبتِ  عِظامي  لَحمَها   فَتَرَكتِها      مُعَرَّقَةً   تَضـحى  إِلَيهِ  وَتَخصَرُ

وَأَخلَيتِها  مِـن   مُخِّها     وَكَأَنَّها       قَواريرُ في أَجوافِها الريحُ  تَصفِرُ

إذا سَمِعَت  ذِكرَ الحَبيبِ تَقَطَّعَت      عَلائِقُها   مِمّا   تَخــافُ   وَتَحذَرُ

خُذي بِيَدي ثُمَّ انهَضي بي تَبَيَّني       بِـيَ  الضَّرَّ  إلاّ   أَنَّنـي   أَتَسَتَّرُ

فَما حيلَتي إن لَم تَكُن لَكِ  رَحمَةٌ      عَلَيَّ  وَلا  لـي عَنكِ صَبرٌ فَأَصبِرُ

 

5) الوسواس:

ليس الوَسواس، وهو حديث النفس، مرضاً في حد ذاته، لكنه من أعراض الأمراض النفسية. فالمصاب يحدّث نفسه في وحدته عن مصيبته صامتاً أو هامساً أو مجاهراً بالشكوى. وفي اللغة الوَسْوَسَةُ: حديث النفس، والوسواس: الصوت الخفي من ريحٍ تهزّ قصباً ونحوه، أو صوتُ الحلي، كما قال الأَعْشَى(12):

تسمعُ للحَلْيِ وَسواساً إذا انصرفت         كما استعان بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ

 

وقال ذو الرمة(2):

فَباتَ يُشْئِزُه ثَأْدٌ، ويُسْهِرهُ         تَذَوُّبُ الرِّيح، والوَسْواسُ والهِضَبُ

 

وفي حديث عثمان، رضي اللَّه عنه: لما قُبِض رسول اللَّه، صلى اللَّه عليه وسلم، وُسْوِسَ ناسٌ وكنت فيمن وُسْوِس؛ يريد أَنه اختلط كلامه ودُهش بموته، صلى اللَّه عليه وسلم. والوَسْواس: بالفتح، الشيطان. وقوله عز وجل: (من شر الوَسْواس الخَنَّاس)؛ أَراد من ذي الوَسْواس وهو الشيطان الذي يُوَسوس في صدور الناس .. وإِنما قيل مُوَسْوِس لتحديثه نفسه بالوَسْوسة؛ قال اللَّه تعالى: (ونعلم ما تُوَسْوِسُ به نفسه)(2).

 

لقد صرح المجنون بالوسواس الذي يعتريه، وعزا وساوسه إلى الهموم التي تقترب من وسادته وتغالبها. واستعار الوسادة للدلالة على ما فوق الوسادة وهو رأسه أو النوم الذي تبعده الهموم. والجدير بالملاحظة في الأبيات التالية أن الشاعر كان وحيداً يقاسي آلامه النابعة من بعد ليلى عنه، ويفكر فيما سيؤول إليه حاله، من موت محتم بعد رحيل ليلى أو وفاتها. ومن دلائل حيرته وما يعتريه من وسواس وتذبذب، أنه يبدأ في البيت الأول يخاطب ليلى التي كناها بأم مالك، ثم يخاطب الخليلين في البيت الثاني كما هو شائع بين الشعراء، ثم عاد يخاطب ليلى في البيت الثالث. بعد ذلك حول الخطاب إلى نفسه في البيت الرابع والخامس وقال إن وساوس الهموم تصارعه وتبعد عنه النوم، ثم عاد إلى الخليلين يوجه لهما الخطاب باستنتاج صريح أن ليلى هي الدواء لدائه، كل ذلك وهو كما ذكرت وحيدٌ:

 

تَبَدَّلتِ  مِن  جَدواكِ  يا  أُمَّ  مـالِكٍ       وَساوِسَ هَمٍّ   يَحتَضِرنَ   وِسادِيا

خَليلَيَّ  إِن  بانــوا    بِلَيلى    فَقَرِّبا       لِيَ النَّعشَ وَالأَكفانَ وَاستَغفِرا  لِيا

إِذا  ما  طَواكِ  الدَّهرُ  يا أُمَّ مالِكٍ       فَشَأنُ  المَنايا  القاضِياتِ  وَشانِيا

رُوَيداً  لِئَلاّ  يَركَبَ  الحُبُّ  وَالهَوى      عِظامَكَ  حَتّى   يَنطَلِقنَ   عَوارِيا

وَيَأخُذَكَ الوَسواسُ مِن لاعِجِ الهَوى       وَتَخرَسَ  حَتّى لا تُجيبَ  المُنادِيا (ر)

خَليلَيَّ  لَيـلى   قُرَّةُ  العَينِ   فَاطلُبا       إِلى قُرَّةِ  العَينَينِ  تَشفي   سَقامِيا

 

6) الذهول والنسيان:

انشغال عقل المجنون بليلى أنساه أموره الأخرى حتى أمور العبادة، كما قال:

فَيا لَيلُ  كَم  مِن حاجَةٍ  لي  مُهِمَّةٍ       إِذا جِئتُكُم يا لَيلُ لَم أَدرِ ما هِيا

أُصَلّي فَما  أَدري  إِذا  ما  ذَكَرتُها       أثنتَينِ صَلَّيتُ الضُّحى أَم ثَمانِيا

 

وقال:

إنّي  لأجلِسُ  في النادي  أُحَدِّثُهُم    فَأَستَفيقُ  وَقَد  غالَتنِيَ  الغُولُ (ز)

يَهوى بِقَلبي حَديثُ النَفسِ نَحوَكُمُ    حَتّى يَقولَ جَليسي أَنتَ مَخبولُ

 

وقال:

يُسائِلُني صَحبي فَما أَعقِلُ الَّذي       يَقولونَ مِن ذِكرٍ لِلَيلى اعتَرانِيا

 

وهو إن أراد الصلاة، يمَّمَ وجهه نحو جهة ليلى ونسي جهة الكعبة، مع إيمانه بالله سبحانه وتوحيدِه، لأن حب ليلى طغى على تصرفاته:

 

أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها       بِوَجهي  وَإن  كانَ المُصَلّى وَرائِيا

وَما  بِيَ إشراكٌ  وَلَكِنَّ  حُبَّها       وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا

 

وعلل قيس ذلك بداء الحب، وعذره أنه ليس على المريض حرج، ونفى عن نفسه صفة الإشراك بالله. وقد تأثر بذلك القول شاعر الحب الإلهي، الشاعر الصوفي عمر بن الفارض الذي قال(10):

 

أمَمْتُ أَمامي في الحَقيقَةِ فَالوَرى       وَرائي وكانَت حَيثُ وجَّهتُ وِجهَتي

يَراها إِمامي في صلاتيَ  ناظِري      وَيشهدُني  قلــبي    أمـامَ     أئِمَّتي

ولاَ غرْوَ إِنْ صَلَّى الإِمامُ إليَّ إِنْ      ثَوَتْ في فؤادي  وهْيَ  قِبلةُ  قِبلتي

 

يعلل قيس عدم فهمه لما يقول محدثوه بانشغاله بحب ليلى:

 

وَشُغِلتُ عَن فَهمِ الحَديثِ سِوى         ما كانَ  مِنكِ  وَحُبُّكُم شُغلي

وأُديم  نحو  محدثي     ليــرى         أنْ قد فهمتُ وعندكم   عقلي

 

7) شدة الحب:

وعبر المجنون عن شدة حبه قائلاً:

 

بِيَ  اليَومَ  داءٌ    لِلهُيامِ   أَصــابَني      وَما مِثلُهُ  داءً  أَصابَ   سَوائِيا

إِذا الحُبُّ أَضناني دَعوا لي طَبيبَهُم       فَيا عَجَباً  هَذا الطَبيبَ المُداوِيا

وَقالوا  بِهِ  داءٌ   قَدَ   اْعيا   دَواؤُهُ       وَقَد عَلِمَت نَفسي مَكانَ  شِفائِيا

 

وقال:

وَأَهواكِ يا لَيلى هَوىً لَو تَنَسَّمَت       نُفوسُ الوَرى أَدناهُ صِحنَ مِنَ الكَربِ

وقال:

أُحِبُّكِ يا لَيلى مَحَبَّةَ عاشِقٍ       عَلَيهِ جَميعُ المُصعِباتِ تَهونُ

أُحِبُّكِ حُبًّا  لَو تُحِبّينَ  مِثلَه       أَصابَكِ مِن وَجدٍ  عَلَيَّ جُنونُ

8) البكاء:

البكاء من الأعراض الرئيسية لداء العشق، لأنه تعبير عن الحالة النفسية المضطربة بسبب أعراض العشق الأخرى كالحزن والضيق والكآبة. والبكاء وسيلة تنفيس عن ضغط الحزن على النفس، فلا غرو أن نرى المجنون يكرر وصف البكاء بتعابير مختلفة وتفنن في الصياغة الشعرية في الكثير من قصائده.

فشاعرنا المجنون لا يخفي دموعه التي تُرى واضحة تنحدر على خديه:

أُكابِدُ أَشواقاً وَأَذرِفُ أَدمُعاً       مِنَ العَينِ فَوقَ الخَدِّ بادٍ ظُهورُها

 

وله تشبيهات عاطفية مختلفة لدموعه وبكائه. فمن تشبيهاته الرائعة لبكائه التي لم يسبق إليها شاعر قبله، أنه وصف الدموع المترقرقة في عينه وكأنها طبقة زجاجية شفافة، ينظر من خلالها إلى دار ليلى التي ارتحلت عنها، وتلك الطبقة من ماء الدموع التي تصبها عينه، هي في الواقع ماء الصبابة، وهي رقة الشوق وحرارته. وقد تزداد دموع الشوق فتُغرِق عينه وتحجب عنها الرؤية، فيصبح كالأعمى لا يرى شيئاً، ثم تخف فيبصر من جديد. ثم يقول لنا إن الذي يتساقط من عينه ليس مجرد دموع بكاء، ولكنه نفسه التي يذوِّبها الحب فتسقُطُ على شكل قطرات:

 

نَظَــرتُ كَأَنّي  مِن    وَراءِ  زُجاجَةٍ       إلى الدارِ مِن ماءِ الصَبابَةِ أَنظُرُ

فَعَينايَ  طَوراً  تَغرَقانِ   مِنَ  البُكا       فَأَعشى وَطَوراً تَحسِرانِ  فَأُبصِرُ

وَلَيسَ الَّذي يَهمي مِنَ العَينِ دَمعُها       وَلَكِنَّهُ  نَفــسٌ    تَذوبُ   فَتَقطُرُ

 

واستعار مرْي الناقة في تعبير، أي مسح ضرعها لاستدرار الحليب، فجعل الشوق كيَدِ إنسان تمسح عينه فتستدر دموعها:

وَطالَ امتِراءُ الشَّوقِ عَينِيَ كُلَّما       نَزَفتُ دُموعاً تَستَجِدُّ دُموعُ

وهو لا يستكثر بكاءه الدائم بسبب الحب:

 

وَلا سُمِّيَت عِندي لَها مِن سَميَّةٍ       مِنَ الناسِ إلا بَلَّ دَمعي رِدائِيا

خَليلَيَّ  لا  وَاللهِ  لا أَملِكُ البُكا       إِذا عَلَمٌ  مِن  آلِ لَيلى بَدا لِيا

خَليلَيَّ  لا تَستَنكِرا  دائِمَ  البُكا       فَلَيسَ  كَثيراً  أَن  أُديمَ  بُكائِيا

 

والاستعانة بنوح الحَمام عند الحزن والبكاء مألوف في الأدب العربي، يلجأ له الشاعر الحزين ليبث الحمام شكواه، أو يحمله رسائله إلى المحبوب، ويُقنع نفسه بأن الحمام يشاركه الأحزان والهموم ويعينه. كذلك فعل الأمير الشاعر الذي اشتهر بالفخر وعزة النفس، أبو فراس الحَمْداني، الذي جعل الحمامة حزينة مثله، فخاطبها طالباً أن تشاركه أحزانه وهمومه وهو في سجن الروم قائلاً(11):

 

أقول وقد ناحت  بقربي  حمامة        أيا جارتا هل  تَشعُرين  بحالي؟

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا!        تعالَي أقاسِمْك  الهموم  تعالِي!

لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلةً         ولكن دمعي في الحوادث غال! 

 

أما دموع المجنون، فليست غاليةً بل رخيصة، فمن أجل ليلى يطلب العون من الحمام على بكائه:

 

أَلا  يا  حَماماتِ  العِراقِ   أَعِنَّني      عَلى شَجَني وَابكينَ  مِثلَ بُكائِيا

يَلومونَ قَيساً بَعدَ  ما شَفَّهُ  الهَوى       وَباتَ يُراعي النَّجمَ حَيرانَ باكِيا

يَبيتُ ضَجيعَ الهَمِّ ما يَطعَمُ الكَرى       يُنادي إلهي  قَد لَقِيتُ  الدَّواهِيا

 

ومن أرق القصائد المنسوبة إلى المجنون ونسب بعض أبياتها إلى شاعرين أمويين آخرين وهما يزيد بن الطثرية (ت 126 هـ ) وابن الدمينة (ت 130 هـ)قصيدته التي مطلعها: "ألا يا صبا نجد مَتى هِجتِ  مِن نَجد"، التي يذكر فيها أن ورقاء أبكته كبكاء الطفل الصغير، ومع أنه يفوق الطفل قوة وتحملاً، ولكنه شبه نفسه بالطفل في بكائه لأن البكاء طبعٌ ملازمٌ له وللطفل:

 

أَلا يا صَبا نَجدٍ مَتى هِجتِ مِن نَجدِ؟            فَقَد زادَني مَسراكِ وَجداً عَلى  وَجدي

أَإِن هَتَفَت وَرقاءُ في رَونَقِ  الضُّحى            عَلى  فَنَنٍ غضِّ  النَّباتِ   مِنَ  الرَّندِ

بَكَيتُ  كَما  يَبكي  الوَليدُ   وَلَم  أَزَل            جَليداً  وَأَبدَيتُ  الَّذي  لَم  أَكُن أُبدي

وَأَصبَحتُ  قَد   قَضَّيتُ  كُلَّ   لُبـانَةٍ            تِهاميَّةٍ  وَاشتاقَ  قَلـبي  إِلى  نَجـدِ (س)

إِذا  وَعَدَت  زادَ   الهَوى   لانتِظارِها            وَإِن بَخِلَت  بِالوَعدِ  مِتُّ على  الوَعدِ 

وَإِن  قَرُبَت داراً  بَكَيتُ   وَإِن   نَأَت             كَلِفتُ  فَلا  لِلقُربِ  أَسلو  وَلا  البُعدِ

فَفي  كُلِّ  حُبٍّ  لا   مَحـالَةَ   فَرحَةٌ             وَحُبُّكِ  ما  فيهِ  سِوى  مُحكَمِ الجُهدِ

أَحِنُّ  إِلى  نَجدٍ   فَيــا   لَيتَ   أَنَّني             سُقيتُ عَلى  سُلوانِهِ  مِن هَوى  نَجدِ (ش)

أَلا   حَبَّذا   نَجــدٌ    وَطيبُ    تُرابِهِ            وَأَرواحُهُ  إِن  كانَ  نَجدٌ  عَلى العَهدِ

وَقَد  زَعَموا  أَنَّ  المُحِبَّ    إِذا   دَنا            يَمَلُّ  وَأَنَّ  النَأيَ  يَشفي  مِنَ  الوَجدِ

بِكُلٍّ  تَداوَينا   فَلَم  يُشفَ   ما   بِـنا            عَلى أَنَّ قُربَ  الدارِ خَيرٌ  مِنَ  البُعدِ

عَلى  أَنَّ  قُربَ  الدارِ  لَيسَ   بِنافِعٍ            إِذا كانَ  مَن  تَهواهُ  لَيسَ  بِذي  وُدِّ

 

ولا يتورع أن يكشف ما به من ضعف بسبب الحب أمام النساء:

 

وَيا  لَيتَها  تَدري  بِأَنّي  خَليلُها       وأنّي أَنا   الباكي  عَلَيــها  بُكائِيا

نَظَرتُ إِلى ليلى فَلَم أَملِكِ البُكا       فَقُلتُ ارحَموا ضَعفي وَشِدَّةَ ما بِيا

فَقامَت هَبوباً وَالنِساءُ مِنَ اْجلِها       تَمَشَّينَ  نَحوي  إِذ  سَمِعنَ بُكائِيا

 

فقلبه يحترق ويذوب في هوى ليلى وهو لا يملك غير البكاء:

 

فَقُلتُ وَعَيني تَستَهِلُّ  دُموعَها        وَقَلبي بِأَكنافِ الحَبيبِ يَذوبُ

فَيا لَيلَ جودي بِالوِصالِ فَإِنَّني       بِحُبِّكِ   رَهنٌ  وَالفُؤادُ  كَئيبُ

 

ولكن لمَ يبكي مجنون ليلى؟ فيجيبنا هو بأن الحب يبكيه، وأن دموع العين نجيع الحبِّ أي دمه:

 

وَما حُبُّها  إِلا تَمَكَّنَ  في  الحَشا       وَأُورِثَ  في الأَكبادِ   مِنهُ  سَعيرُ

وَأَجرى دُموعَ العَينِ قَهراً نَجيعُهُ       وَيَهمي مِنَ الدَمعِ المَصونِ غَديرُ

 

 فحب ليلى وهواه لها يبكيه، فدمعه يفيض ويسجم أي يقطر ويسيل على خده:

أَبيتُ صَريعَ الحُبِّ أَبكي مِنَ الهَوى       وَدَمعي عَلى خَدّي يَفيضُ وَيَسجُمُ

 

وقال إن كبده حرّى أي كثيرة الحرارة من شدة الحب والعطش للمحبوب، وفي الحديث: "في كل كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ"، أي إن في سَقْي كل ذي كبد حَرَّى أَجراً. وقال إن دمعه حثيث أي سريع الجريان:

وَلي كَبِدٌ حَرّى وَقَلبٌ مُعَذَّبٌ       وَدَمعٌ حَثيثٌ في الهَوى غَيرُ جامِدِ

 

كما يذكر المجنون لنا أسباباً عديدة لبكائه، أهمها شدة الحب والأسى، فهو مُدْنَف أي إن مرض الحب لازمه وأثقل عليه:

 

فَمَن مُبلِغٌ عَنّي الحَبيبَ رِسالَةً       بِأَنَّ  فُـؤادي   دائِمُ    الخَفَقانِ

وَأَنِّيَ مَمنوعٌ مِنَ النَّومِ  مُدنَفٌ       وَعَينايَ مِن وَجدِ الأَسى تَكِفانِ

 

وتارة يدعي أنه يبكي من أجلها لا لما به من الحزن:

 

وَقائِلَةٍ     وارَحمَتا    لِشَبـابِهِ       فَقُلتُ أَجَل  وارَحمَتا لِشَبابِيا

وَما بالُهُ يَبكي؟ فَقالَت لِما بِهِ       أَلا إِنَّما أَبكي لَها لا لِما بِيا

 

وتارة يقول إنه يبكي عليها:

وَيا لَيتَها تَدري بِأَنّي خَليلُها       وَأنّي أَنا الباكي عَلَيها بُكائِيا

 

وأحيانا يقول إنّ ذكراها يبكيه:

إِذا ذُكِرَت لَيلى بَكَيتُ صَبابَةً       لِتَذكارِها حَتّى يَبُلَّ البُكا الخَدّا

 

وقال:

وَإِنَّ انهِمالَ الدَّمعِ يا لَيلَ كُلَّما       ذَكَرتُكِ يَوماً خالِياً لَسَريعُ

 

كما قال:

علقتُ مليحة  الخدين   ورداً        تشبَّه حسنَ مطلعها السعودُ

أَهيمُ   بِذِكرِها   وَأَظَلُّ  صَبًّا       وَعَيني  بِالدُّموعِ   لَها  تَجودُ

ألا يا ليت لحدَكِ كان لحدي       إذا ضـمتْ  جنائـزنا   اللحودُ

 

وذكرى اللقاءات الأولى تستحق أن يبكي عليها، لأنها قد لا تعود:

سَأَبكي عَلى ما فاتَ مِنّي صَبابَةً       وَأَندُبُ أَيّامَ السُّرورِ الذَّواهِبِ

 

وفي البيتين التاليين يذكر المجنون أنه يبكي خوفاً من مستقبل مشت لا يرى فيه ليلى. وفي البيت الثاني منهما يصور لنا دموعه، ويصفها بسبعة أوصاف مختلفة في بيت واحد، واستعار تلك الأوصاف من سقوط الأمطار، فكاد أن يغمرنا بدموعه التي لا تجف. فهو يسكب دموعاَ (سجالاً) أي تنصب انصباباً، و(تهتاناً) أي قطراتها متتابعة، و(وبلاً) أي كأنها المطر الشديد، و(ديمة) أي كمطر بلا رعد أو برق، و(سحاً) أي سال الدمع من فوق واشتد انصبابه، و(تسجاماً) أي سال سيلاناً، و(هملاناً) أي دام مطرها بسكون وضعف. فقال:

 

وَإِنّي لأبكي اليَومَ مِن حَذَري غَداً       فِراقَكِ   وَالحَيّانِ   مُؤتَلِفانِ

سِجالاً  وَتَهتاناً   وَوَبلاً   وَديمَةً       وَسَحًّا وَتَسجاماً إِلى هَمَلانِ

 

وبكى عندما رأى قوم ليلى يرحلون بها، ودموعه الغزيرة تنهمل، فوصف دموعه بالدلاء العظيمة التي تسحبها "نواضح مُغرَبٍ" أي إبل السقي في الصباح فترفعها لري نخيلٍ عطشى:

 

كَأَنَّ دُموعَ العَينِ تَسقي جُفونَها       غَداةَ رَأَت أَظعانَ ليلى غَوادِيا

غُروبٌ أَثَرَّتها  نَواضِحُ  مُغرَبٍ       مُعَلَّقَةٌ  تَروي  نَخيلاً  صَوادِيا

 

فصدر البيت (غُروبٌ أَثَرَّتها نَواضِحُ  مُغرَبٍ) يحتوي على ألفاظ معجمية وتفخيم تعودنا أن نراه في أشعار شعراء مثل أبي العلاء المعري، لا أشعار قيس بن الملوح الذي يميل إلى الألفاظ السهلة والبسيطة. لذلك راودني بعض الشك في أن تكون الأبيات لشاعر آخر في أول الأمر ولكني أقنعت نفسي بأنها للمجنون رحمه الله. فأنا لم أفهم المقصود بالنواضح حتى قرأت في المعاجم أنها إبل السقي. فلماذا التجأ المجنون، خلافاً لعادته، إلى كلمات معجمية يصف فيها دموعه؟ أميل إلى الاعتقاد أن الشاعر الذي لم يترك وصفاً أو لفظاً للبكاء والدموع إلا استعمله في أشعاره، حتى أنهك الألفاظ المتداولة، فلجأ لألفاظ غير متداولة. وخير دليل على ما أقول أنه أنهك ألفاظ الدموع في ألفاظ البيت الذي ذكرته أعلاه عن وصفه لدموعه:

 

سِجالاً  وَتَهتاناً   وَوَبلاً   وَديمَةً       وَسَحًّا وَتَسجاماً إِلى هَمَلانِ

 

وأبيات أخرى سأذكرها أدناه، كره فيها أن يكرر نفس ألفاظ البكاء والدموع التي استعملها مراراً فمال إلى التنويع. وهذه الألفاظ المناسبة لدموعه تدل على قدرة لغوية وشعرية فائقة يغرف منها عند ما يحتاج. فالمعري كان رهين المحبسين: المنزل والعَمى. فكان عنده الوقت الطويل في محبسيه ليمعنَ الفكر والتدقيق في اختيار ألفاظه، فيأتيَ بالغريب والنادر. أما المجنون فهو وإن كان طليقاً في البراري والصحراء الواسعة رهين محبسين آخرين: الفكرِ والمكان. ففكره محبوس في موضع أو موضوع واحد لا يحيد عنه وهو حبه لليلى. ومكانه وإن كان واسعاً جغرافيًا، إلا أنه في عزلة بمثابة سجن لا رفيق له ولا أنيس. فهو صاحب موضوع واحد يقلب فيه فكره في عزلة تامة عن الناس، يستطيع أن يتنمق ويختار ألفاظه على سعته، ولكن لا يختار في الغالب إلا السهل والبسيط، لأن ذلك ما تميل إليه نفسه.

ولكن ماذا في ألفاظ (غُروبٌ أَثَرَّتها نَواضِحُ  مُغرَبٍ) من معانٍ أرادها قيس لبكائه؟ إنّ المتمعن في تلك الألفاظ الأربعة يرى إيحاءات شعرية للدموع وتصويراً بليغاً لكثرتها وغزارتها وانسكابها.

 

وأعتقد أن قيساً لم يستعمل كلمة غروب والألفاظ التي تلتها في صدر البيت جزافاً، ولكنه أراد التأثير النفسي للمترادفات التي توحي بسيلان الدمع. فكلمة غروب تشترك فيها الدلاء والعيون بما تحتوي من ماء. فالغروب في اللغة هي العيون، ومفردها غرْب إذا كانت تسيل ولا تنقطع دموعها، والغروب مجاري الدمع، والغروب الدموع نفسها، والغروب الدلاء العظيمة(2). فإذا كانت كلمة غروب توحي بالدموع أو العيون فأَثَرَّتها توحي بالدموع أيضاً، فعين ثرَّة أي كثيرة الماء. أما النواضح وهي إبل السقي، فلها معنىً آخر وهو رش الماء. ونَضَحَ الحِبُّ (الزير): تسرب منه الماء. وفي (كتاب العين): العين تنضح بالماء أي تفور(12). وحتى كلمة مُغرَب التي تعني البياض أو الصبح فيها إيحاء بكلمة الغروب التي ذُكرت في بداية البيت. وقد تكون تلك الكلمات التي اعتبرتها معجمية هي كلمات غير معجمية بل شائعة عند قيس، ومألوفة في بيئته، وأنّ حالته النفسية ومشاعره جادت بها بدون قصد وانتقاء.

ويبكي المجنون بعد ذلك شاكياً إلى ديار ليلى التي هجرتها، ما حل به من شدة الشوق:

 

وَأَشكو للديارِ عَظيمَ وَجدي       وَدَمعي في انهِمالٍ وَانسِيابِ

 

فيذهب لزيارة دارها المهجورة يوميًّا، ويبكي من آلام البين والفراق حتى ظن أصحابه الذين شاهدوا الدموع في عينيه، أن عينيه مغرمتان بالبكاء:

 

أَفي  كُلِّ  يَومٍ   أَنتَ  آتٍ   دِيارَها       بِعَينَينِ  إِنساناهُما  غَرِقانِ؟ (ص)

إِذا اغرَورَقَت عَينايَ قالَ صَحابَتي       لَقَد أُولعَت عَيناكَ بِالهَمَلانِ

 

كما يرسم صورتها في التراب ويبكي على الصورة التي ترمز للحبيبة:

 

أُصَوِّرُ صورَةً في التُربِ مِنها       وَأَبكي إِنَّ قَلبي في عَذابِ

 

فهو إذن يقضي نهاره بكاءً وليله أنيناً وتحسراً:

 

قَتيلٌ مِنَ الأَشواقِ أَمّا نَهارُهُ       فَبــاكٍ    وَأَمّا  لَيلُهُ   فَأَنينُ

لَهُ عَبرَةٌ تَهمي وَنيرانُ قَلبِهِ       وَأَجفانُهُ تُذري الدُموعَ عُيونُ

 

ثم ينسج لنا من خيال شاعر رقيق، بعيد عن الواقع والحقائق العلمية، أن إحدى عينيه تذرف الدمع بشدة، فإذا جفت دموعها أسعفتها العين الأخرى وأعانتها بالدموع:

 

مُقلَةٌ  دَمعُها  حَثيثٌ  وَأُخرى       كُلَّما جَفَّ دَمعُها أَسعَدَتها (ض)

ما جَرَت هَذِهِ عَلى الخَدِّ حَتّى       لَحِقَت تِلكَ  بِالَّتي سَبَقَتها

 

ثم يتحفنا بمبالغة مؤثرةٍ لا ننفر منها، بل نطرَب لها، حيث استعار للروح عيناً باكية، فادّعى أنه قد جفت دموع عينِه المبصرة، فانبرت عين روحه تبكي بدلاً منها، فتسيل من الروح دموعٌ:

 

جَفَّت مَدامِعُ عَينِ الجِسمِ حينَ بَكى       وَإِنَّ بِالدمعِ عَينَ الروحِ تَنسَكِبُ

 

وعندما فضحه الدمع وكشف ضعفه، حاول أن يبرر دموعه بعود أصاب عينه فلم يفلح:

 

ذَكَرتُ عَشِيَّةَ  الصدَفَينِ ليلى      وَكُلَّ  الدَّهرِ   ذِكراهـا   جَديدُ

فَقُلنَ لَقَد  بَكَيتَ  فَقُلتُ  كَلا       وَهَل يَبكي مِنَ الطَّرَبِ الجَليدُ

وَلَكِن قَد أَصابَ سَوادَ عَيني       عُوَيدُ  قَذىً لَهُ  طَرفٌ  حَديدُ

فَقُلنَ  فَما    لِدَمعِهِما  سَواءٌ      أَكِلتا  مُقلَتَيكَ  أَصـابَ  عودُ؟

 

9) الرغبة في الموت والانتحار:

 

يرى العاشق الموت وسيلة لإنهاء آلام العشق وعذابه، لذلك كثر الحديث عن الموت في أشعار المجنون.

فهو يشعر بالضياع لأنه يعاني عيشةً مرة، فلا هو قادر على الصبر على العذاب، ولا عزرائيل يأتي ليقبض روحه ويريحه من معاناته:

 

فَلا مَلَكُ المَوتِ المُريحِ يُريحُني       وَلا أَنا ذو عَيشٍ وَلا أَنا ذو صَبرِ

 

ولكن الوصول إلى الموت أسهل وأقرب من وصال الحبيبة:

 

مَتى يَشتَفي مِنكِ الفُؤادُ المُعَذَّبُ       وَسَهمُ المَنايا مِن وِصالِكِ أَقرَبُ

فَبُعدٌ وَوَجدٌ  وَاشتِياقٌ    وَرَجفَةٌ       فَلا أَنتِ  تُدنيني  وَلا  أَنا  أَقرَبُ

 

فهو في حيرة من أمره، لا يعرف ماذا يفعل بنفسه بعد أن هجرته ليلى:

 

وواللهِ  ما أَدري  عَلامَ  هَجَرتِني       وَأَيَّ  أُموري  فيكِ  يا لَيلَ أَركَبُ؟

أَأَقطَعُ حَبلَ الوَصلِ  فَالمَوتُ دونَهُ       أَمَ اْشرَبُ كَأساً مِنكُمُ لَيسَ يُشرَبُ؟

أَمَ اْهرُبُ حَتّى لا أَرى لي مُجاوِراً       أَمَ  اْفعَلُ  ماذا؟ أَم  أَبوحُ  فَأُغلَبُ؟

 

فاليأس قاتل له:

اللَهُ  يَعلَمُ  أَنَّ  النَفسَ  هالِكَةٌ       بِاليَأسِ  مِنكِ  وَلَكِنّي  أُعَنّيها

 

فمثل ليلى تستحق أن يموت من أجلها العاشق لذلك فإن لم يحظَ بليلى فليجهز له نعشه:

 

عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ       وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا

خَليلَيَّ  إِن  ضَنّوا  بِلَيلى  فَقَرِّبا       لِيَ  النَعشَ  وَالأَكفانَ   وَاستَغفِرا  لِيا

 

فهو هالك لا محالة:

أَتارِكَتـي  لِلمَوتِ  إِنّي  لَمَيِّتٌ       وَما  لِلنُّفوسِ  الهالِكاتِ   بَقاءُ

والذي سيقتله هو حب ليلى:

خَليلَيَّ أَمّا  حُبُّ  لَيلى  فَقـاتِلٌ       فَمَن  لي  بِلَيلى  قَبلَ  مَوتٍ  عَلانِيا

فقد رضي المجنون بالموت في الحب، ورأى أن طاعة ليلى واجبة مثل الفرائض التي أوجبها الله على عباده:

رَضيتُ بِقَتلي في هَواها لأنَّني       أَرى حُبَّها حَتماً وَطاعَتَها فَرضا

 

ويعترف أنه همَّ بالانتحار:

 

لَقَد هَمَّ قَيسٌ  أَن  يَزُجَّ  بِنَفسِهِ       وَيَرمي بِها مِن ذُروَةِ الجَبَلِ الصعبِ

فَلا غَروَ أَنَّ الحُبَّ لِلمَرءِ قاتِلٌ       يُقَلِّبُهُ  مـا  شاءَ   جَنباً  إِلى  جَنبِ

فَيَسقيهِ كَأسَ المَوتِ قَبلَ أَوانِهِ       وَيورِدُهُ  قَبلَ  المَماتِ  إلـى  التُّربِ

 

فلا لوم عليه إذا خاطر بحياته من أجل الحبيب:

فَلا تَعذِلوني في الخِطارِ بِمُهجَتي       هَوى كُلِّ نَفسٍ أَينَ حَلَّ حَبيبُها

لقد تمنى المجنون الموت:

أَلا لَيتَني  قَد  مِتُّ  شَوقاً   وَوَحشَةً       فَشَوقي وَحُزني لا يَزالُ جَديدُ

أَلا فَاذكُري ما قَد بَقي مِن حُشاشَتي       فَقَد حانَ مَوتي وَالمَماتُ أُريدُ

 

وقال:

فَيالَيتَ أَنَّ المَوتَ يَأتي مُعَجِّلاً       عَلى أَنَّ  عِشقَ الغانِياتِ فُتونُ

 

لقد عجز الأطباء عن وصف دواء ناجع لمرض العشق، لذلك طلب أن يُعَدّ قبره وفاءً للحب الذي يقتل المحبين:

 

طَبيبانِ  لَو  داوَيتُماني  أُجِرتُما       فَما  لَكُما  تَستَغنِيانِ  عَنِ  الأَجرِ

فَقالا بِحُزنٍ  ما لَكَ  اليَومَ حيلَةٌ       فَمُت كَمَداً  أَو عَزِّ نَفسَكَ  بِالصَّبرِ

فَما بَرِحا  حَتّى كَتَبتُ  وَصِيَّتي       وَنَشَّرتُ أَكفاني وَقُلتُ احفُرا  قَبري

فَما خَيرُ عِشقٍ لَيسَ يَقتُلُ أَهلَهُ       كَما قَتَلَ العُشّاقَ  في سالِفِ الدَّهرِ؟

 

وأقسم برب القرآن الكريم أن ما يلاقيه من سعير الحب قد أجهده وأتعبه، وطلب من صديقيه أن يبلغا ليلى سلامه بعد أن يدفن في قبره:

 

خَليلَيَّ هَيّا  أَسعِداني عَلى البُكا       فَقَد جَهَدَت  نَفسي  وَرَبِّ  المَثانِيا (ط)

خَليلَيَّ  إِنّي  قَد  أَرِقتُ  وَنِمتُما       لِبَرقٍ    يَمـانٍ   فَاجلِـسا   عَلِّلانِيا (ظ)

خَليلَيَّ قَد حانَت وَفاتِيَ  فَاطلُبا       لِيَ النعشَ  وَالأَكفانَ  واستَغفِرا لِيا

وَإِن مِتُّ مِن داءِ الصَّبابَةِ أَبلِغا       شَبيهَةَ ضَوءِ الشمسِ مِنّي سَلامِيا

 

10) خفقان القلب:

خفقان القلب إحساس يشعر به الإنسان عندما يصيب نبض قلبه اضطراب أو اختلاف، أي إن الإنسان قد يشكو من خفقان في القلب بدون اضطراب، ولكن بسبب ازدياد سرعة النبض عن المألوف. وقد تزيد سرعة دقات القلب في حالات كثيرة، منها الحزن والفرح والمجهود الشديد والحمى واستعمال دواء يؤثر في القلب. أما الاضطراب في نبضات القلب فله أسباب كثيرة، ولكنها غالباً ما تكون بسبب مرض في القلب نفسه، وقد تزيدها العوامل النفسية سوءاً. أما شاعرنا قيس بن الملوح، فقد كان يعتريه نوع حميد من الخفقان بسبب ازدياد سرعة دقات القلب عند سماع اسم ليلى، أو لشدة حزنه، ولكنه أصيب في أواخر حياته باختلال في نبضات قلبه، كما سأوضح في فصل عن أمراضه العضوية.

ففد قال قيس إن الحب جعل في قلبه صبابة، أي شوقاً به رقة وحرارة، فأحس بوجيب القلب أي اضطرابه وخفقانه بسبب حرارة الحب:

 

أَقامَ بِقَلبي مِن هَوايَ صَبابَةً       وَبَينَ ضُلوعي وَالفُؤادِ وَجيبُ

 

فهو يدعي أن قلبه مضطرب طَوال حياته، لأنه لا يذكر من الحياة إلا منذ وقع في غرام ليلى. فإصابة قلبه بداء الحب جلبت عليه المصائب:

 

لَقَد جَلَبَ  البَلاءَ عَلَيَّ  قَلبي       فَقَلبي  مُذ عَلِمتُ  لَهُ جَلوبُ

 

فإذا سمع المجنون اسم ليلى ينتابه الخفقان، ويرف قلبه بسرعة كما يرف جناح الطائر، فيحس كأن طيراً يطير في صدره:

 

دَعا بِاسمِ لَيلى غَيرَها فَكَأَنَّما       أَطارَ بِلَيلى طائِراً كانَ في صَدري

 

فقلبه كثير الخفقان:

وَلَمّا بَلَغنا الحَيَّ وَالجِسمُ ناحِلٌ       وَقَلبِيَ مَوجوعٌ كَثيرُ الخَوافِقِ

وقال:

وَيا شِبهَ لَيلى رُدَّ قَلبي  فَإِنَّهُ       لَهُ  خَفَقانٌ  دائِمٌ  وَبُروقُ

وقال:

أَظَلُّ رَزيحَ العَقلِ ما أُطعَمُ الكَرى       وَلِلقَلبِ مِنّي أَنَّةٌ وَخُفوقُ (ع)

 

وكرر ادعاءه أن خفقان القلب ملازم له دائماً:

فَمَن مُبلِغٌ عَنّي الحَبيبَ رِسالَةً       بِأَنَّ فُؤادي دائِمُ الخَفَقانِ

11) اليأس:

لقد أحس المجنون بتباريح العشق ووطأة اليأس من وصال ليلى، فيعجب كيف اجتمع الهوى واليأس في صدره في آنٍ واحد:

 

يَقولونَ عَن لَيلى عَيِيتَ وَإِنَّما       بِيَ اليَأسُ عَن لَيلى وَلَيسَ بِيَ الصَّبرُ

وَإِنّي  لأهواها  وَإِنّي   لآيِسٌ       هَوىً  وَإِياساً  كَيفَ  ضَمَّهُما الصَّدرُ؟

 

فإن كانت الغَلَبة لليأس على وصال ليلى، فقد يمنع اليأس البغيض الوصول إلى الشيء المحبوب:

وَإِن حالَ يَأسٌ دونَ لَيلى فَرُبَّما       أَتى اليَأسُ دونَ الشَيءِ وَهوَ حَبيبُ

وكرر نفس المعنى في بيت آخر:

لَئِن حالَ يَأسي دونَ لَيلى لَرُبَّما       أَتى اليَأسُ دونَ الأَمرِ فَهوَ عَصيبُ

 

ويروى أنه مر رجل بالمجنون وهو يخط في الأرض فوقف متعجباً منه فقال له: ما بك يا أخي؟ فرفع المجنون رأسه وقال:

 

بِيَ اليَأسُ أَو داءُ الهُيامِ أَصابَني       فَإِيّاكَ عَنّي لا يَكُن بِكَ ما بِيا

 

وقال:

فَيا رَبِّ إِن أَهلَك وَلَم تُروَ هامَتي       بِلَيلى أَمُت  لا  قَبرَ أَفقَرُ  مِن قَبري

وَإِن أَكُ عَن لَيلى  سَلَوتُ  فَإِنَّما       تَسَلَّيتُ عَن يَأسٍ وَلَم أَسلُ عَن صَبرِ

 

12) الهم والغم:

بعد أن ضجر قيس من كثرة علاج الأطباء له بالكي الذي أحرق جلده، طلب أن يتركوه يموت بهمومه وأحزانه. وقال اذهبوا بحراسة الله ودعوني أموت:

 

دَعوني دَعوني  قَد أَطَلتُم عَذابِيا       وَأَنضَجتُمُ  جِلدي بِحَرِّ  المَكاوِيا

دَعوني أَمُت غَمًّا  وَهَمًّا  وَكُربَةً       أَيا وَيحَ قَلبي مَن بِهِ مِثلُ  ما بِيا

دَعوني بِغَمّي وَانهَدوا في كَلاءَةٍ       مِنَ اللَهِ قَد أَيقَنتُ أَن لَستُ باقِيا (غ)

 

وقال:

فَوَيلي عَلى العُذّالِ ما يَترُكونَني       بِغَمّي أَما في العاذِلينَ لَبيبُ؟

 

فهموم الهوى تؤرقه وتعاوده حتى صار جسمه كالناقة الذليلة التي أهزلتها الأسفار: 

أَرِقتُ  وَعادَني   هَمٌّ  جَديـدُ       فَجِسمي لِلهَوى  نِضوٌ بَليدُ

 

فحرارة الحب أشعلت أنفاسه، فلو هبت أنفاسه المتوقدة على البحر لأنشفه لهيبها:

وَكَم زَفرَةٍ لي لَو عَلى البَحرِ أَشرَقَت       لأنشَفَهُ  حَرٌّ  لَها  وَلَهيبُ

وقال:

فَإِن لَم أَمُت غَمًّا وَهَمًّا وَكُربَةً       يُعاوِدُني  بَعدَ  الزَّفيرِ  زَفيرُ

13) الذل:

يتلذذ العشاق بقبول الذل من أجل الحب والحبيب، وقد بالغ في ذلك شعراء الصوفية مثل ابن الفارض حيث قال:

 

مني لَهُ ذُلُّ الخَضُوعِ ومنهُ لي       عِزّ المَنوعِ وقوّة المستضْعِفِ

 

وقال الصنوبري:

لها عِزُّ السلاطين       ولي ذلُّ المساكينِ

 

أما عنترة بن شداد الذي نتغنى بقصائده الشهيرة في الفخر والعزة والشجاعة، فلا يقبل الذل إلا من أجل الحب:

وَلَولا الهَوى ما ذَلَّ مِثلي لِمِثلِهِم       وَلا خَضَعَت أُسدُ الفَلا للثَّعالِبِ

 

ولم يتورع الخليفة العباسي ابن معتز من الاعتراف بذله، من أجل المحبوبة، وهو ملك:

اِرحَم مَليكاً صارَ مُستَعبَداً       قَد ذَلَّ في حُبِّكَ سُلطانُه

 

لذلك لا نعجب من المجنون إذا قبل الذل من أجل الهوى حيث قال:

أُذَلُّ  لآلِ   لَيلى  في  هَواها       وَأَقبَلُ  لِلأَكـابِرِ   وَالصِّغارِ

 

لأنه يستلذ عذاب الذل كما يستلذ أي عذاب من أجل ليلى، ألم يقل؟:

جُنِنتُ بِها وَقَد أَصبَحتُ فيها       مُحِبًّا  أَستَطيبُ  بِها   العَذابا

 

فبعد ارتحال ليلى عن حيهم شعر بذل الغريب بين الناس:

فَلي قَلبُ مَحزونٍ وَعَقلُ مُدَلَّهٍ       وَوَحشَةُ مَهجورٍ وَذُلُّ غَريبِ

 

فهو يعيش غافلاً عن الناس هزيل الجسم لا يطعم السعادة بعد أن أذله الحب وأرقه:

باكِياً  ساهِياً  نَحــيلاً  ذَليلاً       لَيسَ  يَهدا  وَلَيسَ يَطعَمُ  غَمضا

14) الغشيان:

لقد ذكر الرواة وبالغوا في كثرة ما يغشى على قيس. ولا يستبعد أنه كان يغشى عليه لأسباب نفسية أو عضوية. فاضطراب دقات القلب وسرعتها قد تقلل كمية الدم التي يضخها القلب، فيهبط ضغط دم المصاب، ويقل تدفقه للمخ، مما يسبب له إغماء أو دوخة أو "خفة في الرأس" تمنعه من القدرة على التركيز والجواب، مع القدرة على السماع، (انظر فصل الأمراض العضوية). وقد اعترف المجنون بأنه يغشى عليه حيث قال:

 

فَما زِلتُ مَغشِيًّا عَليَّ وَقَد مَضَت       أَناةٌ وَما عِندي  جَوابٌ وَلا رَدُّ

 

أي إنه لم يفقد وعيه تماماً ولكنه لم يتمكن من الرد والجواب.

ولقد ذكر أبقراط الطبيب اليوناني (460-377 قبل الميلاد)، ما لاحظه في العاشق: " قد ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحب كيف يهرب دمه ويستحيل لونه"(4).

 وقال المجنون:

 

وَأُغشى فَيُحمى لي مِنَ الأَرضِ مَضجَعي       وَأُصرَعُ  أَحياناً  فَأَلتَزِمُ  الأَرضا

رَضيتُ   بِقَتلي   فــي   هَواهـا    لأنَّني      أَرى حُبَّها حَتماً  وَطاعَتَها فَرضا

 

وادعى المجنون أنه يغشى عليه كلَّ يوم بسبب صدودها أي انصرافها وابتعادها عنه، وهي مبالغة شعرية، والمقصود من مثل هذه التعبيرات هو أن يقول أن كل مصيبة وقعت له كانت بسبب هجر ليلى له وبعدها عنه:

وَفي كُلِّ يَومٍ غَشيَةٌ مِن صُدودها       أَبيتُ عَلى جَمرٍ وَأُضحي عَلى جَمرِ

15) الشعور بالذنب:

يقول علماء الطب النفسي إن الطفل يفسر وقوع الكوارث والمصائب له أو لعائلته بسببه، فيحمّل نفسه ذنباً لم يرتكبه. لذلك انقلب قيس طفلاً في الأطوار الأولى من حياته من حيث المشاعرُ البدائية فحمّل نفسه مسؤولية بُعد ليلى عنه:

 

نَأَت دارُهُم عَنّي وَفَرَّقَ بَينَنا       جَرائِرُ جَرَّتها  يَدي وَلِسانيا

وقد يكون الذنب ذنبه بالفعل لأن أباها ارتحل بها ليبعدها عن قيس الذي فضح قومه بقصائد التغزل في ليلى.

 

16) الجنون:

أما موضوع جنون قيس الذي ذكره قائلاً:

يَقولونَ مَجنونٌ يَهيمُ بِذِكرِها       وَوَاللَهِ ما بي مِن جُنونٍ وَلا سِحرِ

فلقد خصصت له فصلاً مفصّلاً (هل كان قيس مجنوناً؟).

 

شرح المفردات:

أ‌.        مضنى: مثقل. والضنا: المرض، وأضناه المرض: أثقله وأدنفه والمضاناة المعاناة.

ب‌.     الكاشح: الذي يضمر لك العداوة.

ت‌.     الحِجال: جمع حجلة، وحجلة العروس: بيت يزين بالثياب والأسرة. وبيضات الحجال: النساء، فبيضة الحجل أو بيضة الخدر الجارية المكنونة في خدرها.

ث‌.     ارعوى: كفَّ.

ج‌.     عيلَ الصبر: نفذ.

ح‌.     الدواهي: جمع داهية وهي الأمر المنكر العظيم، والدواهي هنا نوائب الدهر.

خ‌.     الوامِق: المحب، والمِقة: المحبة.

د‌.       الخَلِيّون: جمع خَلِي وهو الذي لا همَّ له.

ذ‌.       أحناء: جوانب.

ر‌.      لعج: حرق، واللاعج: الحب الحارق.

ز‌.      غالت: قتلت غيلة أي خدعة، والغُول المنايا والمهالك.

س‌.   لبانة: حاجة.

ش‌.   سلوان: ماء يذهب هم من شربه.

ص‌. إنسان العين: بؤبؤها.

ض‌. حَثيثٌ: سريع ومستعجل.

ط‌.      المثاني: سورة الفاتحة.

ظ‌.      يمانٍ: منسوب إلى اليمن، وذلك من ناحية الجنوب بالنسبة لمن في نجد. علله: أسقاه مرة أخرى، وعلله بالشيء: ألهاه به.

ع‌.     رزيح: هزيل ومتعَب.

غ‌.     نهد: نهض. في كلاءة الله: في حفظه وحراسته.

 

المراجع:

 

1.      المنجد في اللغة والأعلام – دار الشرق، بيروت 1986.

2.      ابن منظور: لسان العرب – دار المعارف - القاهرة.

3.      المعجم الوسيط – مجمع اللغة العربية-المكتبة الإسلامية، إستنبول، تركيا.

4.      ابن أبي صبيعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء الجزء الأول ص 49، دار الثقافة –بيروت 1979م.

5.      ابن سينا: القانون المجلد الثاني-الكتاب الثالث المقالة الرابعة، في أمراض الرأس، فصل في العشق، ص71 – دار الفكر – بالأفست عن طبعة بولاق.

6.      ابن النفيس: الموجز في الطب –لجنة إحياء التراث الإسلامي – القاهرة 1986م، ص142.

7.      Richard B. Rosse: Perspectives - Vol. 5, No. 1 - An Argument for Love Trauma Syndrome

8.      http://www.recovery-man.com/loveaddict.htm

9.      Richard B. Rosse, M.D: THE LOVE TRAUMA SYNDROME: Free Yourself From the Pain of a Broken Heart.http://www.mymotivation.com/relation/thelove.htm

10. ديوان ابن الارض

11.   ديوان أبي فراس الحمداني.

12.   الخليل: كتاب العين.

bottom of page